د. يوسف بن حمد البلوشي
أحدث التقارير الصادرة عن منظمة العمل الدولية تشكف لنا أرقامًا وإحصائيات مُقلقة عن مستويات الإنتاجية في الدول العربية، وخاصةً في دول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ لم تشهد أي تطورات إيجابية ملحوظة خلال الأربعة العقود الماضية، وفي حد ذاته مدعاة للدراسة العاجلة والمتفحّصة؛ حيث إن التراجع في مستويات الإنتاجية الكلية مرده إلى تدني مستويات إنتاجية العمالة!!
التقرير كشف النقاب عن أن مؤشر إنتاجية العمالة سجل تراجعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي في أغلب دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء الإمارات العربية المتحدة؛ حيث بلغت نسبة التراجع في دول المجلس حوالي (-0.83%)، بينما في سلطنة عُمان انخفض المؤشر بوتيرة أعلى وبنسبة (-4.7%)!
إضافة إلى ذلك، تظهر أحدث التقارير الصادرة عن منظمة "كونفرنس بورد" أن إنتاجية العوامل الكُليَّة سجّلت نموًا سالبًا يقدر بنحو -2.5% في دول مجلس التعاون الخليجي خلال العقد الماضي. وفي سلطنة عُمان يشير التقرير إلى أنَّ مستوى التراجع في الإنتاجية الكلية قد بلغ حوالي -3.7% خلال العقد الماضي. وبدا واضحًا أن مستويات التراجع في الإنتاجية الكلية كانت متقاربة في مُعظم دول مجلس التعاون الخليجي.
هنا يجب التأكيد على أنَّ الإنتاجية تعد أحد المؤشرات الرئيسية في تقييم كفاءة الموارد الاقتصادية؛ حيث تعكس مدى قدرة الدولة على توظيف مواردها وإمكاناتها بكفاءة وفعالية. وتمثل الإنتاجية ركيزة أساسية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ تُعزِّز من مستوى الرفاه الاجتماعي وتساهم في زيادة الدخل القومي. كما أنها تعكس بشكل أساسي مستويات التقدم الاقتصادي بين الدول؛ حيث يعتمد النمو الاقتصادي بشكل أساسي على التقدم التكنولوجي والتقني والبحث العلمي.
ويأخذ مؤشر الإنتاجية في عين الاعتبار كلًا من رأس المال المستثمر ومهارات قوة العمل ضمن اقتصاد معين؛ حيث يقيس كفاءة دمج رأس المال والعمالة في عملية الإنتاج. وهناك اهتمام كبير بمساهمة عوامل الإنتاج المختلفة في دفع قاطرات النمو الاقتصادي؛ حيث إن الزيادة في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج تؤثر بشكل إيجابي وجوهري على النمو الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي عوامل إضافية دورًا مهمًا في تعزيز الإنتاجية وتحفيز النمو الاقتصادي، مثل التكنولوجيا والابتكار. كما يُمكن أن تسهم سياسات الحكومة التي تعزز البنية الأساسية وتوفر بيئة أعمال مشجعة في دفع عجلة النمو الاقتصادي وتحسين الإنتاجية. وبالتالي، يُصبح من الضروري تحليل ديناميكية تفاعل هذه العوامل معًا لتعزيز الإنتاجية وتحفيز النمو الاقتصادي للوصول إلى وضع استراتيجيات النمو والتنمية الاقتصادي.
وتعكس الإنتاجية في أوسع معانيها درجة نجاح القطاع الخاص والعام في الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة لإنتاج السلع والخدمات المطلوبة. والدول التي تمكنت من زيادة الانتاجية، نجحت بالفعل في الاستفادة من مشاريع البنية الأساسية وتشغيلها بكفاءة؛ حيث تساهم البنية الأساسية المُتقدِّمة في تسهيل حركة الصادرات والواردات؛ مما يُؤدي إلى زيادة الإنتاجية في قطاعات مثل: الزراعة والصناعة والخدمات. وزيادة وتحسين الناتج المحلي الإجمالي قد يتأتى من خلال أساليب الإدارة والتقنية الحديثة، ورفع درجة استغلال الموارد الطبيعية والبشرية والبنية الأساسية.
وتُعدّ الكفاءة الاقتصادية وتحسين الإنتاجية من أهم العوامل التي تُساهم في تحقيق النمو والازدهار لأي دولة. ولتحقيق ذلك، يجب التركيز على 4 نقاط أساسية:
أولًا: الاستخدام الأمثل للموارد. ويُقصَد به استغلال جميع الطاقات الإنتاجية المتاحة؛ سواء كانت عمالة أو معدات أو مواد خام، وتجنب الهدر في جميع مراحل الإنتاج والاستهلاك.
ثانيًا: التخصيص الكُفء للموارد. ويشمل ذلك تخصيص جزء من الموارد للاستهلاك الحالي وجزء آخر للاستثمار في المستقبل، وتخصيص الموارد بين القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطني، وتخصيصها بين المناطق المختلفة داخل المحافظات.
ثالثًا: الكفاءة الإنتاجية. وتتضمن زيادة الإنتاج وتحسين جودة السلع والخدمات، مع تقليل كمية المدخلات المستخدمة في الإنتاج.
رابعًا: الكفاءة الاستثمارية. وتتضمن اختيار المشاريع الاستثمارية ذات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية المؤكدة، واختيار الوقت المناسب لإنجازها، واختيار الطاقة الإنتاجية المناسبة.
وفي هذا السياق، تُظهر أحدث التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية والتي تناولت الإنتاجية في دول مجلس التعاون الخليجي، إلى أن مستويات النمو الاقتصادي في هذه الدول تعزى بشكل أساسي إلى تراكم عناصر الإنتاج بشقيه عنصر العمالة ورأس المال. ويعزى ذلك في واقع الحال إلى هيكلية الاقتصادات الخليجية والمعتمدة بشكل أساسي على القطاع النفطي في تراكم رأس المال، إلى جانب الاعتماد على العمالة الوافدة غير الماهرة، فضلًا عن الاعتماد المتزايد على الواردات، وضعف القاعدة التصديرية غير النفطية.
والمؤشرات التي ذكرناها في بداية المقال، تؤكد وجود عدة عوامل تُعرقل نمو الإنتاجية بالشكل المطلوب، لعل من أهمها: تركيبة سوق العمل القائم على العمالة الوافدة ذات مستوى تعليمي متدنٍ. فضلًا عن ضعف المُكوِّن التكنولوجي في الصادرات؛ فمعظم الصادرات سلع خام وأولية، بجانب الاعتماد على الاستيراد من الخارج للسلع والخدمات، علاوة على أسباب تُعزى إلى ضعف قدرات المؤسسات المحلية في المنافسة في الأسواق المحلية والإقليمية. ويُعد تحفيز مستويات الانتاجية عاملًا مهمًا؛ نظرًا لارتباطه بثقافة المجتمع، كما إنه وليد سلوك طويل الأجل، وقد يصعب التأثير فيه في الأجل القصير. ولذلك من المهم في سلطنة عُمان إيجاد آلية يُمكن من خلالها التأثير في إنتاجية الأفراد؛ الأمر الذي سينعكس إيجابًا في نمو الاقتصاد الوطني بوتيرة أسرع، وفي توفير الكثير من الأموال والطاقات والتي نحن في أمسِّ الحاجة إليها.
وفي الختام.. من الضروري دراسة العوامل الدافعة لمستويات الإنتاجية في سلطنة عُمان، وكيفية تحفيزها، ومحاولة الإجابة على عدد من التساؤلات في هذا الشأن، والتي من بينها: هل رأس المال البشري مُستغَل بالشكل المطلوب لإحداث تغيير على أنماط الإنتاجية؟ وهل مخرجات التعليم متوائمة مع متطلبات سوق العمل؟ هل يرجع تدني الانتاجية إلى طبيعة الوظائف التي يُولِّدها الاقتصاد العماني؟ أم إلى درجة التعقيد في المُكوِّن التكنولوجي في عملية الإنتاج؟ وهل تتركز الوظائف في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية أم متدنية؟ وهل لدينا الحوافز الكافية لجذب وتوظيف الموارد البشرية ذات المهارة العالية؟ وغير ذلك من التساؤلات.