عودة الروح

 

 

زهران بن زاهر الصارمي

 

كتبت يومًا لبعض أصحابي الكرام الذين أتبادل معهم الهم والشجن، بعد أيام من بدء المجازر الصهيونية المروعة الرهيبة في حق الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة؛ وذلك، من وحي الخيبة والإحباط والألم الناجم عن الموقف العربي والعالمي المتخاذل عن وقف تلك المأساة أو الانتصار لها، كتبت لهم الأسطر التالية:

"صرت أخجل من الكلام يا صديقي.. أمام ما يحدث أمامي من آلام يتفطر لها القلب ويندى لها الجبين.. أمام مخازي النذالة والخيانة والخوف والجبن والخذلان الذي استبد بمنظومات هذه الأمة.. أمام أن يذبح أخوك أمام عينيك من الوريد إلى الوريد، وأنت عاجز عن نصرته مكتف اليدين مصفد القدمين.

أمام ما تراه ماثلًا، أمام سمعك والبصر، من تكالب دولي همجي مسعور على هذا الفصيل الثوري والشعب المحاصر الأعزل.. أمام هذا الصمود البطولي العظيم الذي لا ينجيك من التساؤل المؤلم: إلى متى هذا الصمود؟ مع هذا التفرج والخذلان والتآمر المتعدد الجهات والصور.

صرت أكره الكلام، يا صديقي، فلا شيء منه ولا تعبير يشفي ما في النفس من رغبة الثأر والقصاص والانتقام، على ما أصابها من ألم ومن هدر للكرامة.

نحن العرب صرنا أضحوكة وأهزوءة الأحرار في العالم، بلغت حد تحرك الشعوب الغربية والأمريكية والبريطانية التي كانت ضد القضية يومًا، وأصبحت اليوم هي من ترفع الصوت عاليًا لنصرتها؛ وشعوبنا العربية، أغلبها، لا تفعل في أحسن الأحوال غير الجلوس أمام الشاشات والتفرج على شلالات الدماء والمجازر التي تحيق بذاك القطاع الصامد، وكأنها تشاهد فيلمًا من أفلام هوليود وليس حقيقة واقعة في أبناء جلدتها.

نحن العرب يا صديقي؛ لدينا من أسباب القوة ما تمكِّننا من تغيير معادلة الصراع، وردع الغاصب المحتل والقوى التي تقف معه.. لكننا لا نملك غير التحسر والتمسك بقشة الصبر.. في انتظار المعجزة.. معجزة أن ينفض طائر العنقاء الفلسطيني الرماد عن جسده ويخرج محلقًا بجناحيه فوق سعير المحرقة.

وهو قول، على ما فيه، من وجاهة، ومن وصف حقيقي لمشاعر الاحتراق الصادقة على تلك المأساة الإنسانية الفظيعة الحادثة في غزة العزة، إلّا أنني بعد مراجعة للذات، أراه اليوم يوقف من يقرأه أمام طريقين أحلاهما مر؛ "الانتحار" بالنار حرقًا، كما فعل الحر الشريف "أرون برشنيل" الأمريكي، وهو أمر لا يبيحه لنا الإسلام شرعًا.. أو نلوذ "بالصمت" وقتل أنفسنا خرْسًا.. وهو غاية ما تتمناه إسرائيل منَّا.. الاستسلام، إلى هذا المستوى، للمصير الذي تريده لنا، دون أن تلقى منا من يرفع في وجهها "نقطة نظام" أو يصرخ بكلمة تزلزل كيانها المأزوم. ففعلًا، كما قال لي بعض الكرام: وما ذا بوسع العاجز أن يفعله غير الكلام؟

فإن نحن توقفنا حتى عن الكلام، انتهى أمرنا من الحياة، وصار وجودنا كعدمنا سيان.

فـ"في البدء كانت الكلمة"، وعلى أجنحتها السرمدية عبَر الإنسان بها التاريخ والأزمان والعصور، وخلد آثاره فيها بما نطق به لسانه وما خطه من سطور، فكيف له أن يتخلى عن هذا البراق وليس له من وسيلة سواه للوصول إلى أي أفق من الآفاق في الحياة؟!   

لقد عبّرت الكلمة عن "كينونة" الإنسان حين قال الشاعر:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده // فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

بل وعبّرت أيضًا عن "حضوره" بأي زمان ومكان، وذلك في قول سقراط لأحد تلاميذه:

"تكلّم حتى أراك".

و"للكلمة" دور عظيم في إحداث أي تطوير أو تغيير؛ تأتي قوة تأثيره وزخمه بعد "اليد" أداة الفعل الإنساني مباشرة، تمثل ذلك في قول رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه..." إلى آخر الحديث الشريف.

بل وهناك من رأى أن للكلمة أحيانًا دورًا أقوى من "الفعل ذاته" وذلك في قول العرب "رب قول أفعل من صول "، وتبدى ذلك أيضًا في قول هتلر : اعطني خطيبًا ماهرًا واحدًا وخذ مني ألف مقاتل بالسيف" في تبيان واضح لسحر الكلمة في تعبئة الشعوب واستنهاضها وشد عزائمها لخوض غمار أية معركة في الحياة؛ وأكبر دليل على ذلك تجسد، مثلًا، في مقولة "اطلبوا الموت توهب لكم الحياة" التي شحذ بها الخليفة أبو بكر الصديق همم وعزائم طلائع المسلمين الذاهبين لملاقاة الروم في الشام، فسحقوا بها "الإمبراطوريةَ الرومانية" في معركة اليرموك؛ وكذلك مقولة سعد ابن أبي وقاص لمرزبان الفرس في العراق "جئناكم برجال يحبون الموت حبكم للحياة " فانخلعت لها قلوب جيوش "الإمبراطورية الفارسية" وانهزمت على كثرتها وجبروتها، أمام الجيوش الإسلامية، القليلة العدد والعتاد، في معركة القادسية.. وكذلك هذا الصمود المنقطع النظير للشعب الفلسطيني وتمسكه الأسطوري المذهل بأرضه، رغم عظم التضحيات ومكابدته لأشد أنواع النكال والسحق والمحق والدمار، القائم على إيمانه الراسخ بمقولة " فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى".

كل تلك الأقوال الخالدة، والأحداث التاريخية والمفصلية التي ارتبطت بها ورافقتها، تؤكد على أهمية "الكلمة" في صنع الحياة وصناعة المسير والمصير الإنساني فيها.

وهو أمر تعاظم إدراك خطورته اليوم لدى الإنسان المعاصر في شتى مواقعه من النظم السياسية والاقتصادية في المعمورة، فسخّر له كل وسائل التعليم والإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، لغرض تكوين وصناعة " قيم ومعتقدات الرأي العام" بأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ ومن كان له قصب السبق فيها، كانت له الغلبة والسيطرة في الميدان.

وعليه؛ فإنني أعتذر لأصدقائي الكرام عن تلك الخاطرة المفعمة بالخواء والخور، الذي لا يليق بنا أبدًا، مهما كان الأسى الذي يجتاح مشاعرنا.. أن نجعله يستبد بنا وننكفئ على أنفسنا ويعطل طاقات الرفض والمقاومة لدينا لكل منكر بأية صورة من الصور.

إذن؛ فلترتفع أصواتنا عاليًا إلى عنان السماء بكل كلمة فيها الدعاء والدعم والثناء لتلك المقاومة الباسلة؛ وفيها الاستنهاض وقدح الشرار في صفوف الشعوب العربية والعالمية، بقصد التوعية بأبعاد القضية الفلسطينية وتحريك الضمائر الحية، وفيها الشجب والاستنكار للأفعال الهمجية القذرة لقوى الظلم والطغيان العالمي، التي تمارس في حق ذلك الشعب المقاوم؛ وفيها كذلك التفنيد للأباطيل، والأضاليل، والأراجيف التي تطلقها الصهيونية والإمبريالية عبر أبواق طابورها الخامس وذبابها الإليكتروني في قنوات التواصل الاجتماعي؛ وفيها أيضًا، الاجلال والإكبار والتمجيد لأفعال الأبطال الحاملين لأرواحهم على أكفهم بمشاركاتهم الفعلية في ساحات القتال والنضال، كأفعال أبطال اليمن ولبنان والعراق، وفِعل البطل العماني الجرّاح أيمن السالمي.

و"للكلمة" وفعلها المؤثر الجسور صورٌ لا تعد ولا تحد، منها النثر ومنها الشعر المرسل والأهازيج والأناشيد وحتى الأغاني الوطنية، ومنها السينما والمسرح وشتى صور الفنون الجميلة من رسم ومن نحت وتصوير وخلافه .. وعلينا استخدام كل هذه الأدوات والصور في نصرة قضيتنا العادلة، كل حسب قدرته وموهبته وإمكاناته، وألًا نألو جهدًا أو نبخل بالمشاركة بأي فعل أو قول بوسع كل منا فعله أو قوله، والمثل العماني يقول "الحقوق تريد حلوق"؛ أي تريد صوتًا يرفعها ويجاهر بها، فذلك هو أضعف الإيمان منا وجُهد المُقِلِّ.

تعليق عبر الفيس بوك