لماذا يُستهدف الفكر الإباضي الآن؟

 

 

د. عبدالله باحجاج

هناك من يصف عودة جريمة تكفير مذهبنا الإباضي من أحد مُثيري الفتن بدولة الكويت، أن وراءه إعادة تدوير الفكر الوهابي، وهذه سردية قديمة لا تنفذ إلى عمق الفهم النافذ بالمآلات الحديثة، ولا تضعنا في طبيعة التحدي الذي نستشرفه، وتنبغي إدارته من الآن.

وهنا نتساءل: لماذا يظهر هذا الفتَّان الآن؟ وهل من إسلام المسلم أن يحاول إحداث فتنة مذهبية في مجتمع إسلامي مُستقر وآمن وموحَّد ومُتَّحِد ومُناصِر لقضايا الإسلام والمسلمين؟ مثل هذه التساؤلات لا بُد من طرحها بكل موضوعية؛ لأنها تضعنا في مسار الظرفية الراهنة وآفاقها، وتعمل على تحصين ذاتنا بوعي المآلات الحديثة؛ بعيدًا عن السرديات التي إمَّا أن تكون من الماضي القريب، أو بقايا تنتسب إليه اسميًا، رغم الشكوك المحيطة به كالمدعو سالم الطويل.

وكل من يُعمِل فكره الاستشرافي بمآلات حقبة ما بعد غزة والحرب الصهيونية على إيران، سيضع هذا الفتَّان بين أحد الخيارين التاليين أو كلاهما، ولا ثالث لهما؛ فهو إمَّا قد أصبح إحدى أدوات الصهاينة والأمريكان، أو أنه يتقرَّب منهم بجريمة تكفيره للمذهب الإباضي؛ فالكثيرُ يعلم أن الصهاينة والأمريكان قد اختاروا الفكر الذي ينتمي إليه الفتَّان وهو "المداخلي" لكي يسود على كل الأفكار في المنطقة؛ لأنه يتماهى مع مصالحهم المستقبلية. هذا الفكر قد كفَّر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 1991 بحُجج تافهة، وأفتى بالاستعانة بأمريكا لضرب العراق وسقوطه، وفي عام 2001 عندما احتلت أمريكا، أفغانستان أفتى بأن المقاتلين ضد أمريكا خوارج!!

تلكم مجرد أمثلة؛ لذلك لا نستبعد أن تكون قضية الفتنة المُتجدِّدة قُربة تقدَّم للصهاينة والأمريكان، أو أول بادرة إثبات وجودهم كطرف يمكن الاعتماد عليه في المنطقة، وهم يعلمون أن من أهم أجندات الصهاينة البحث عن فكر إسلامي بديل للأفكار السائدة في المنطقة، يُشرعِن لهم "السلام الإبراهيمي"، ويواجه أعداءهم في المنطقة، بعد مواقفهم الصلبة من جرائم الإبادة والمذابح التي يرتكبها الصهاينة في غزة. ولا ينبغي أن يخفي على الوعي السليم أن أيَّ قوة خشنة أو ناعمة (كانت دولة أو جماعة أو فرد مؤثر نَصَرَ كل مُقاوِم أو مُجاهِد، بالذات في غزة الباسلة) ستُستَهدَف آجلًا أم عاجلًا حسب قوة تأثيرها.. الكل الآن في قوائم الاستهداف، والتنفيذ يبدو لنا مسألة وقت.

وينبغي العلم -نحن العُمانيون- بأن الصهاينة ومن معهم الظاهرين والمُستتِرين، لن ينسوا أو يتناسوا مواقف سماحة المفتي العام للسلطنة فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي؛ بل كل العُمانيين على مختلف تعدُّد مكوناتهم المذهبية في نصر غزة وقضايا الإسلام والمسلمين، لأنهم -أي العُمانيين- كانوا بحق القوة الناعمة الإسلامية الوحيدة التي عزَّزت قوى المُجاهدين، دون كللٍ أو مللٍ؛ سواء من خلال تبرعاتهم المالية للمتضررين من العدوان، أو مواقفهم الأخلاقية، وفي مقدمتهم سماحة المُفتي- حفظه الله. وكذلك لن تُنسى مواقف حكومتنا المُشرِّفة التي تتماهى مع مواقف المجتمع بصورة مُشرِّفة.

ليعلم أهل عُمان أن الفتنة لم تأت من فراغ، وأنها رُمِيَت في بحر أو محيط، وتهاوت إلى قاعه، وإنما ستؤسِّس لحملة استهداف مُمنهَجة ينبغي توقعها، وعلينا -حكومةً ومجتمعًا- الانتباه لها، والاستعداد لها بوعيٍ تضامني وتكاتفي من أجل إحباط أي محاولة أخرى لاستهداف داخلنا، وينبغي التعامل مع فتنة الطويل على أنها مجرد البداية أو جس نبض، وأننا لن نَسلَم منهم كثمنٍ ندفعه نتيجة مواقفنا المُشرِّفة مع إخوة الدين والإنسانية.

صحيحٌ أنهم في حالة إحباط من ردة فعلنا -العُمانيين- على الفتنة التي تم التعبير عنها بتلاحمٍ منقطع النظير، وبصورة تلقائية وفورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتقنية الحديثة، ومن قبل كل مُكوننا المتعدد والمتنوِّع، وهذه رسالة قد جاءت في توقيتها المناسب، وعبَّرت عن مدى تأصُّل أو تأصيل فكرة الوحدة المُشتركة كخيارٍ وجودي مُستدام بمسيرته ومصيره.

فكُل عُماني قد أصبح واعيًا بقيمة مُنجز التعايش المذهبي والسِلم الاجتماعي، فما تعيشه بلادنا من نِعَم الأمن والاستقرار على عكس غيرها، قد أصبح ديمومته مسؤولية الفرد والمجتمع والحكومة، ولن يخرج من بيننا من يَشِذ على خيارنا الاستراتيجي المُستدام، ومن يخرج -نادرًا في جنوح بشري مهما كانت دوافعه- سيَرمِي نفسه وحيدًا، وسيكون شاذًّا ومرفوضًا حتى من أقرب الناس إليه. ونُجزِم أن الوقفة العُمانية ضد الفتّان المدعو سالم الطويل ستُبعثِر أجندات الصهاينة ومن معهم، ولن يترددوا كثيرًا في التفكير في المساس بمكوننا المذهبي؛ لأنهم سيكونون الخاسرين مقدمًا، وهذا يفرض علينا تقييم وتقويم هذه المسيرة المباركة لسدِّ ثغرات قد تُستغل.

كذلك نخشى هنا، من تغيير بوصلة استهداف الأعداء من المذهبية إلى استغلال قضايا أخرى أو الجمع فيما بينها، كقضايا الباحثين عن عمل والمُسرَّحين، وهذا ما يستوجب الإعلاء من شأنه تنبيهًا وتحذيرًا، ولفت الانتباه إلى أن الأعداء إذا ما فشلوا في مسارٍ، فسينتقلون لآخر؛ لأن بلادنا لم تكن مثل غيرها متواطئة أو مُتفرِّجة على مذابح وإبادات غزة؛ بل رافِضة ومُنكِرة لها، وفي الوقت نفسه داعمة للحق في المقاومة، وكل من يُتابع صُحفنا العُمانية -وفي مقدمتها جريدة الرؤية- سيقفُ على حجم وماهية الموقف العُماني، كل العُمانيين، مع إخوتهم في غزة؛ فهو موقف ثابت وأصيل، ولن يتراجع قيد أُنملة، مهما كانت التحديات المتوقعة أو التي يُخوِّفوننا بها.

هذا يجعلنا نتعامل مع بعض قضايانا بأسلوب الأزمات خارج السياقات الاعتيادية، وقد شهدنا مؤخرًا حراكًا إيجابيًا حكوميًا مُتصاعدًا في قضايا الباحثين والمُسرَّحين، لكنها -ورغم ذلك- تحتاج لإيقاعات أسرع ونتائج أكبر، وتقييم وتقويم مسيرة السنوات الماضية من حيث فاعلية الفاعلين ونتائجهم، وقد آن الأوان للجنة تقييم أداء الوزراء والوكلاء والمؤسسات أن ترفع نتائجها للمقام السامي لجلالة السلطان -أعزه الله- للاستحقاقات الزمنية، فبعد كل خمس سنوات يُلزمها القانون بالتقييم، وهي الآن تستوفي هذا الأجل الزمني، والظرفية السياسية تُلِح على التقييم، واللجنة تعد من أهم أدوات الحوْكَمة لمسيرتنا المُتجدِّدة.

وأخيرًا.. نُوجِّه رسالة لأشقائنا في الكويت، هذا البلد الذي نُحبه ويُحبُنا وله في قلب كل عُماني محبة تاريخية مُستدامة، يَطلب فيها كل عُماني بمحاكمةِ المدعو سالم الطويل كردعٍ في مهده، وكعبرة للآخرين عابرة للحدود، ويقينًا أن الاشقاء -مثل أشقائهم في السلطنة- لن يسمحوا بأي كائنٍ أن يمس ثوابتهم أو رموزهم أو استقرارهم وأمنهم، وأمن الشقيقة الكويت من أمننا، واستقرارها من استقرارنا، ولنجعل فتنة الطويل تجربة نُحصِّن بها دواخلنا؛ بل ودواخل كل دولة خليجية؛ لأن القادم أخطر، ويُحتِّم التكاتف والتعاضد؛ فالكُل في سفينة واحدة.

الأكثر قراءة