قراءة في رواية الأديبة نور الشحرية

 

زهران بن زاهر الصارمي

"قصة شعبنا والثورة".. رواية للأديبة المبدعة نور بنت غفرم الشحرية؛ تأسر قارئها من عنوانها المجنح بالخيال، اللافت لعقل كل ذي فكر، وحس، وتجربة نضالية في الحياة؛ الباعث على نهم الرغبة الجامحة لمعرفة ما ستأتي به سطورها من حكايات التضحيات والمعاناة والنضال والكفاح المرير.

وهي رواية صغيرة الحجم تقع في 175 صفحة من القطع الصغير، ولكن الكتب لا تقاس بحجمها، وإنما بمقدار ما تخلفه من أثر في مشاعر ومخيال وفكر قارئها. وفي رواية " الشيخ والبحر" لأرنست همنجواي، التي عُدت، رغم صغرها، من خيرة الروايات العالمية، التي تحدثت عن "الإرادة الإنسانية الفذة" في مواجهة الصعاب؛ وفي كتاب " العبودية المختارة " للابويسيه الفرنسي، الذي صار، رغم ضآلة صفحاته، أيقونة الكتب التي تحدثت عن صور ومعاني "العبودية" في المجتمعات الإنسانية.. أقول إن في هذين الكتابين خير دليل على أن أهمية الكتب لا تكمن في حجمها أو عدد صفحاتها، وإنما في مقدار ما تتركه من بصمة وأثر في نفوس قرائها الذين يغوصون في سطورها ويتناولونها بالبحث والفحص والتمحيص.

ورواية "قصة شعبنا والثورة" تأخذ بلب قارئها من أولى سطورها.. من إهداءاتها المتوهجة، النابضة بالحياة، المفعمة بالمشاعر الوطنية الجياشة:

"إلى أبي أحمد سعيد الشحري .. ذلك الرجل الشجاع، والبطل المغوار، الذي حمل بندقيته، وفي نبضه كل معاني الكرامة والإباء، إلى الفارس الذي رحل عن الدنيا، وما تزال الرصاصة في جيبه !" ..

"رحل وما يزال رمزاً للعطاء وعنواناً للشرف ومثالاً للأمانة والنضال" (ص 5)

"إلى عمي محمد سعيد غفرم الشحري.. إلى ذلك الرجل الذي عاش شهيداً وما تزال بعض رصاصات الثورة مغروسة في جسده"  (ص8)

- إلى أمي فاطمة سهيل سعيد البرعمي؛ لقد كنت أنت بطلة روايتي.. أنتِ الثائرة ألصابرة الوفية الأبية الشجاعة، أنت القدوة والمثال ( ص6)

إلى ذلك الإهداء المجلجل الرصين الذي جسدت فيه الكاتبة غايتها السامية النبيلة من كتابتها لتلك الرواية: "أهدي روايتي لكل شهداء الثورات وأبطال الروايات وصناع المجد والانتصارات"  (ص 9).

وتعرف الكاتبة ذاتها بروايتها البديعة فتقول: " هذه الرواية تتحدث عن فترة الثورة ومعاناتها الإنسانية.. كتبت عن مشاعر تلك الحقبة ومعاناة تلك الثورة".

وتتحدث عن بطلة الرواية بقولها: "طفول" هي "ظفار" حين تعاني، وحين تضحك، وحين تحب، وحين تثور، وحين تغضب، وحين تندهش، وحين تصارع، وتتألم، وتنتصر".

هنا يبرز "الالتزام"، الذي قطعته على نفسها نور الشحرية بالخط الوطني الأمين، الذي سيسير عليه عرض وقائع أحداث روايتها النوعية المميزة.

وإني لأشهد بأنها قد صدقت في وعدها، وحافظت على وهجها الثوري ونهجها الوطني وأمانتها المخلصة في عرضها لأحداث روايتها من أول سطر فيها، إلى آخر سطورها التي قالت فيها:

"تحية قلبية لكل شهدائنا بلا استثناء.. لكل من دفع حياته ثمناً لكرامته وعزة بلاده.. ما زلنا نذكركم، ما زلنا نعيش مع ذكراكم أنتم الرجال الذين عرفتم الحياة على حقيقتها.. أنتم المناضلون الذين رحلتم لأعماق الأبدية، كي تشعلوا لنا شعلة الحرية، وشمعة الحياة." ص106.

"سيظل مجد الثورة بكل أبطاله أغنية لا تمل، ترددها قوافل " بلقيس " وتحملها موانئ اللبان ومواسم الخريف الماطرة، وتحكيها مساءات "الصرب" البهية، وليالي الشتاء الحالمة".... ص 117

وقالت في ختام الرواية: "مررت على المقبرة، حيث يرقد أبي وكل الشهداء المناضلين هناك.. وقفت لحظة حداد أمام قبورهم، أنشد نشيد "قصة شعبنا والثورة يرويها العراك الضاري..قصتنا تثير.. كل شعب فقير وأصحاب الضمير." ص175 وقد جسدت "نور غفرم" هذا الوفاء الشريف لروح الثورة في هذا الحوار الرفيع الذي وقع بينها وبين أمها من الرضاعة، حين قالت لها ذات يوم تلك الأم:

- "عن أي ثورة تتحدثين؟"

- أجابتها (طفول) عن" ثورة الحرية والشرف، التي قادها أبي وكل الأحرار ومن ضمنهم أخي "مسلم".

- ارحمينا وارحمي نفسك، وعيشي حياتك بهدوء واتركينا من ذكريات تلك القرية التي تألمنا فيها طويلاً، فقصة الشعب والثورة انتهت بتفكك وخسارة وألم، حتى إنني لا أتشرف بذكرها.

- حينئذ قاطعتْها (طفول) بكل أنفة وكبرياء وجرأة، وصاحتْ فيها: إلى هنا توقفي، أرجوكِ، إلاّ الثورة.. إلاّ الصدق، إلاّ تلك الدماء الطاهرة التي نزفت من أجل كرامتنا وأحاسيسنا، دفاعاً عن حقوقنا وأحلامنا، إنها قصة شعبنا التي لا تموت ولا تفنى" ص 154.

وعلى إثر هذا الحوار رحلت (طفول) عن بيت أمها بالرضاعة "شاعرة بألم ليس ثمة كلمات في أحشاء اللغة العربية ستضمد جراحها" ص 155.

فيا لها من غيرة وطنية أصيلة، وياله من شموخ وإباء تتصاغر أمامه النفوس الواهنة الذليلة؛ ويا له من وفاء وانتماء لروح الثورة ومبادئها السامية النبيلة، لا يفهمه غير الأحرار ذوو النفوس الشريفة الأبية.

 في رحاب نيرفانا الحب والحرب

فلنبحر من بعد ذلك في العوالم الساحرة المبهرة لهذه الرواية الرائعة الزاخرة بالمواقف الإنسانية الفريدة؛ فنقف وقفة إكبار وانبهار مع قصص "الحب" الخالد الأصيل، الذي جمع بين أرواح نورانية وإنسانية سامية مناضلة، تأسر الوجدان، وتخلف الوجع الممتع في حنايا قارئها الجاد.. تلك القصص الشبيهة في حدوثها، زمن الحرب، "بالحلم أو بالمعجزة". غير أن "نور غفرم" تمكنت، بخيالها المجنح، وبراعتها اللغوية الثرية، وملكتها الأدبية الرفيعة، من تحويل الأحلام إلى حقيقة واقعة، وتحقيق المعجزات إلى ملاحم وطنية خالدة مشهودة، سردت من خلالها أحداث الثورة "الشهيدة المغدورة" وأرخت لبطولاتها الفذة النادرة.

ومن بين تلك القصص الممتعة الشجية؛ تلك القصة التي جمعت فيها "نور" بكل جدارة واقتدار بين ثلاثة "أشجان" عصية على الجمع؛ هي الحب، والحرب، والوفاء لكليهما"؛ قصة الحب الرومانسي الجميل، الذي جمع بين بطلين من أبطال الرواية: "سالم، ومنى"؛ اللذين تزوجا بعد قصة حب عتيد وطويل.. لكن العريس سرعان ما غادر عروسه ملتحقاً برفاقه في الجبل.. وبقيت "منى" تنتظر فارسها، تكابد أشواقها له، فالوطن أهم من الجميع .. غير أنها خلال ذلك الانتظار، لدغتها حية رقطاء في القدم؛ كادت أن تودي بحياتها، وعطلتها عن الحركة؛ لكن حبيبها "مسلم"، عاد إليها، بعد أن سمع عنها، ليقول لها في وَلَهٍ:

- لقد عدت من أجلك، لا أريد أن أفقدك، أنت وطني الذي أجاهد من أجله وأحارب.. ص 71

وقرر أن يأخذها إلى بر الأمان، ويدرك بها أصحاب المنطقة الذين هجروا دورهم المدمرة بالطائرات، فحملها على ظهره أياماً وهو يقول لها: "سأكون سعيداً، وأنا أحملك على ظهري، وكأني أحمل الحياة كلها، وأفر بها، سأخطفك يا فتاة ! وسأحدثك وأمازحك وأجري بك بين الأشجار، وفي أعالى التلال".

لمعت عيناها، واحمرت وجنتاها خجلاً، كان يريد أن يبعث السعادة في قلبها الصغير، فهي العروس التي لم تهنأ مع عريسها.

ابتسمت تغالب البكاء، مسح دمعتها بيده قائلاً:

"لا تحزني، طالما أني معك، سأحميك، وأحبك طوال عمري!"

"كانت هذه الكلمات كفيلة بأن تسعدها، هونت كلماته عليها المتاعب التي كابدتها في غيابه وجعلتها تشعر بأنها ملكة لا ند لها." ص 72.

"كانت تتألم، ولكن ألمها على زوجها الذي يحملها على ظهره طوال الطريق أكبر وأشد.. استراحا عندما جن الليل، وأحست كأنهما في جنة لهما وحدهما.. سامرا القمر، وافترشا الأرض، والتحفا السماء بكل نجومها.. وبعد قليل كانت تراقبه وهو يغط في النوم بجانبها، إنه يستحق الحب، هو بطل من الأبطال الثوار، هو بطل بإنسانيته ورجولته وبصدق مشاعره".. ص73.

"وفي الصباح كانت على ظهره يعبر بها أعلى الجبل..كانت منى حزينة لأنه سيتركها ويلحق برفاقه، لكن الحرب ما كانت لتراعي مشاعرها.. لم تستطع النظر في عينيه حين حمل أمتعته وهم بالرحيل، حتى لا تضعف وتبكي، حتى هو تفادى النظر إليها وكتم ألمه وقلقه..ولكنها من بعيد كانت تراقبه وهو يختفي خلف التلال، وملامحها هادئة، لا توحي بالعواصف والانكسارات التي تخفيها في داخلها"..ص74.

"وفي يوم قالت لها أم محاد: إنها تحمل في أحشائها طفلاً.

ضحكن النساء وداعبن منى قائلات: يبدو أن حمل سالم لكِ على ظهره جاء بنتيجة!!

ابتسمت منى بخجل وشعرت أنها ملكت الدنيا بحملها هذا.. جميل أن تأتي السعادة وسط عاصفة من المخاوف والمتاعب.. ولكن السعادة لم تدم، فبعد أيام أخبروها أن "سالماً" حبيبها لقي حتفه في الحرب الطاحنة.. كان فراقه مرعباً ومؤلمأ..عبثاً كانت "منى" تخادع نفسها وتصمت .. كسرها الحزن كثيراً.. كانت أحاسيسها مشبعة بالألم والحسرة.. وحتى لو انتهت الحرب، وتحرر الوطن، سيبقى الحزن الغاشم يحتل قلبها العمر كله.

ما أقساك أيتها الحرب.". ص75

ثم تتحفنا "نور" بقصة ذلك الحب النيرفاني الذي ربط بين أخيها "مسلم، والحسناء فاطمة"، التي قررت أن تثأر لكرامتها وأرضها وعائلتها المنكوبة التي قتل العدو والديها وجميع إخوتها بقصف منزلهم في إحدى الليالي، فحملت بندقيتها والتحقت بالثوار في الجبل، رغم حبها الجارف "لمسلم" وقاتلت معهم حتى استشهدت.. ص 42.

وما إن علم "مسلم" عن استشهاد حبيبته، حتى امتشق بندقيته، رغم توسل أمه له بألا يحمل البندقية، خوفاً عليه، ولحاجتها الملحة إليه في القيام بشؤون الأسرة؛ فقال لها:" أماه هذه البندقية هي وطني، والوطن أهم مني ومن الجميع".. لحظتها، تعدى عالمه، البندقية، والحسناء "فاطمة"، وصار عالمه عالم الكرامة والعرض والتضحية، وشعاره؛ إما الحياة بحرية وكرامة، أو الموت بعزة وشرف، ولم يكن ليقبل بحياة المذلة والهوان.

وما هي إلا أيام حتى استشهد هو الآخر في غمار معارك الثورة، ص 96 – 97؛

فكان أن قُبرا بجوار بعضيهما وكُتب على الحجر الموضوع على قبريهما:

"هنا يرقد أبناء هذا الوطن العظيم، عاشقا الثورة والعزة والمجد "مسلم" و"فاطمة"، لن ننساكما للأبد" ص99

فآهٍ أيتها الكرامة والحرية، كم سُفكت على مضارجكما البهية من أرواح طاهرة زكية.

ثم تروي لنا "نور الشحرية" بلغة "السهل الممتنع" قصة الحب الأفلاطوني الصامت، الذي حملته "طفول" بين حناياها للقائد البطل "صاحب الندبة"، الذي التقته صدفة، وهي صبية صغيرة، حين كلفها أخوها "مسلم" الجريح، لتكمل عنه مهمة تسليم القائد، المقص الذي سيقطع به الأسوار الشائكة، لفتح ثغرة فيها لهروب الرفاق من المدينة للجبل؛ فوصفت لنا تلك اللحظة الفارقة من عمر الزمن، بكل أبعادها وتجلياتها الجليلة: " لم تكن تلك الأيام لتفرق بين صغير أو كبير، كان الجميع يعاني ويقاوم ويكابد..الجميع مجبر أن يتعرض لمواقف جسيمة ومهام عنيفة في أي وقت، حتى النساء في ذلك الوقت انخرطن مع الجنود .. وكانت الأخلاق الحميدة، صفة الرفيقة المناضلة آنذاك، كان كل الثوار كالإخوة، يستأمن الأب والأخ على بناته في الانخراط مع أفراد المقاومة كرفيقات في النضال؛ فالقوانين التي تمضي الجبهة على أثرها، هي احترام وأخوة، وسلام، وأمانة، وصدق لأبعد الحدود..هي تضحية، فكيف للنفس المضحية أن تأتي الانحراف أو الغدر؟! إنها الطهارة، وإنها المجد، ومشوار الانتصار" (ص79) (وهذه شهادة رفيعة وكلمة حق وانصاف، يعتز بها كل من ناضل ذات يوم في صفوف الثورة، قالتها "نور" بكل صدق وأمانة وشجاعة، عن الأخلاقيات الرفيعة السائدة بين أجيال تلك الثورة المجيدة)..فحين التقت "طفول" بذلك القائد، بعد جهد وعناء ومشقة ومطاردة من الطائرة الكشافة ".. أخذت تصف لنا تفاصيل ذلك اللقاء العاصف الذي حرك في قلبها "رسيس" الحب المستحيل:" شعرتُ (في انبهار) كأنني أمام أخطر قرصان البحار، ورغم كل ذلك، وجدتُه شاباً صغير السن .. فتعجبتُ كيف لفتى في سنه أن يقود عملية خطيرة مثل هذه، ومن أين له ذلك الكبرياء، لكنني لم أكن أشك يوماً ببسالة وشجاعة رجال ظفار" (ص83).. ثم حدثتنا "نور" في سرد ممتع، وشفيف، عن تلك اللحظات المكتنزة بمشاعر الخوف من قصف الطائرات، وعذوبة الاحلام النرجسية، التي عاشتها مع ذلك القائد.." وبهدوء وثقة أخذ القطعة المعدنية من يدي، ثم هم بالانصراف، لكنه عاد ونظر إلي متفحصاً، وسألني: اخبريني؛ ألم تلاحقك طائرة الدورية في طريقك إلى هنا؟".. فأحسستُ حينها بالفخر والزهو وأنا أجيبه بثقة: "لا تخشَ عليّ، فالصخور والأشجار هنا رفاقي، بيننا علاقة قوية".

ابتسم بطرف شفتيه مجاملاً إياي، وقال لي بأن أتبعه.. بحق شعرت أنه إنسان غير عادي، مميز وعميق..اجتاحتني مشاعر غريبة في حضرته، لم تكن الحرب لتمنع مشاعري من الاندفاع والخروج من شرنقتها، لقد كبرتُ فجأة !!.. شعرتُ أن الطفلة التي في داخلي باتت أنثى يانعة، وأنا أتبعه بانجذاب وشغف.. شعرت أن الشقي المغروس بين أضلعي يعلن عن ثورة وهتافات وتمرد.. كانت الطائرات تحلق فوقنا، وأصوات القصف تصم الآذان، ولكني مأخوذة به وحده.. لا أسمع سوى وقع أقدامه، ولا أبصر سوى قامته أمامي، لأول مرة عشت ذلك الشعور الغريب.ص 83.

وكان من الأقدار أن اشتركت "طفول" في عملية قص الأسلاك الشائكة القريبة من برج للمراقبة وإحداث فجوة فيها، وبدأ الرفاق بالعبور من خلالها، ولكن فجأة تلاشى الضباب، وانكشف الرفاق العابرين أمام عيني حارس البرج.. وكان المفترض والمتوقع أن يقوم بإبادتهم بالرشاش الذي بين يديه .. لكن إذا بذلك الحارس، بعد ذهوله من رؤيتهم، يقف بشموخ أمامهم، ويرفع يده، ويحييهم تحية عسكرية، ثم أشار لهم بالإسراع والمضي قدماً.. ويقف القائد يحيي الحارس تحية عسكرية، ويردها الحارس بأفضل منها، وهو يرفع لهم القبعة، تحية وتمجيداً لهم"ص93

يا له من موقف عظيم يسجل لأبناء هذا الوطن الأحرار بماء الذهب؛ فهي لحظة تجلت فيها أسمى وأروع معاني الوطنية التي جاشت في ضمير ذلك الجندي الوطني الشريف، فنسي واجبه العسكري المقسور عليه، وانبجس لحظتها من أغوار روحه حبه الحقيقي لهذا الوطن المقهور، فسمح للساعين لحريته بالعبور بكل احترام وتقدير.

وهي حادثة ذكرتني بموقف مشابه وقع لنا مع مقدم الشرطة "عبد العزيز بن حسين الرئيسي " الذي حاول، يوماً، إدخال الطعام علينا، بالقوة، نحن المضربين عن الطعام في سجن الجلالي، في يومنا الثامن للإضراب، فأخذ صينية الطعام منه أحد السجناء، ولكنه بدلاً من إدخالها للمضربين في الزنزانة، سكبها بما فيها على ذلك المقدم، ليغطيه ببدلته الرسمية من قمة الرأس لأخمص القدم بالأرز ومرقة السمك؛ فتزاحم الرفاق على باب الزنزانة، وسقط اثنان منهم في حالة إغماء شديد؛ فسقط عندها القناع الذي يرتديه ذلك الضابط الوطني الشريف؛ وصرخ مهستراً يقول: خوتي.. خوتي .. ما أنا عدوكم .. ما أنا عدوكم .. عدوكم تعرفونه من هو .. وما أنا إلا عبد مأمور".

ثم حاول شرطي آخر أن يسحب صمام قنبلة مسيلة للدموع ليرمينا بها داخل الزنزانة، فظهر الحمية والشرف مرة أخرى عند أحد ضباط الصف، فتصدى لذلك الشرطي وأمسك بالقنبلة من يده وألقاه أرضاً على مؤخرته، وهو يقول له بصوت ملؤه الغضب: أتضربهم بالقنبلة وهم في الزنزانة مقيدي الأيدي والأرجل يا جبان .. والله إنهم لأرجل منك ومني" ... إنها اللحظات الفاصلة من عمر الزمن التي يظهر فيها المستور، وتبين فيها معادن الرجال.

ومرت السنون، وتغيرت ظروف الحياة وتقلبت "طفول" في دروبها الوعرة، ولكنها لم تنس ولم تسلُ عن حبيبها "صاحب الندبة" الذي حملته بصمت بين ضلوعها لسنوات طوال، إلى أن التقته صدفة في نهاية المطاف، وعلمت بأن اسمه "علي" وسمعت صبياً يناديه بـ " أبي " فعلمت أنه متزوج وذاك ولده.. فآثرت الانسحاب في هدوء، وهي تهتف في أعماقها بحسرة وألم وحنين: " ياه يا علي؛ أيها القائد الذي احتلني طويلاً؛ لقد التقينا متأخرين جداً " ص 175

وتروي لنا "نور" على لسان البطلة "طفول" قصة "الحب الممنوع" في العرف القبلي، الذي وقع بين عمتها ورجل كان بين عائلته وعائلتها ثأر قبلي قديم، والمعاناة التي كابدتها عمتها في سبيل زواجها بمن تحب؛ وهو أمر أحسنت الكاتبة وأصابت في الإشارة إليه، لأنه يمثل أحد مآسي جنوبنا الحبيب، "سريان القبلية الجاهلية، ووجود عقليتها "الثأرية" في أوساط غالبية المجتمع، الذي ينبغي أن يكون قد تجاوزها في حياته، بحكم تغير الزمن ومعطياته.

"وذات يوم دب شجار كبير في المنزل بين عمي وعمتي، التي أحبت أحد أفراد عائلة كانت قد تسببت في مقتل أحد أجدادي منذ زمن بعيد..انتقل الثأر في القبيلة جيلاً بعد جيل، ثم تدخل جدي وتعاهدوا على الصلح ووقف الثأر، إلا أن التحالف كان كالرماد الذي يخفي تحته جمراً من الغضب والحقد.

كان عمي يتحدث بلهجة غاضبة وبصوت عال.. لكن كل ذلك لم يجعل عمتي تخاف أو تتردد لحظة واحدة، بل رأيتها تقف في وجه عمي قائلة:

"وإلى متى سندفع ثمن عثرة أكل الدهر عليها وشرب؟!.. إلى متى ستثأرون وتحرضون أبناءكم على القتل والحقد؟ّ! سأتزوج هذا الرجل، فأنا أحبه، وهو صادق في حبه لي، ولا شأن لنا بالماضي".

كنت أنظر إليها بإعجاب، فقد أعجبني موقفها ودفاعها عن فرصتها في الحياة.

جاء رجال القبيلة وأعيانها في المساء ليتدخلوا، ووضعوا أمام عمتي العديد من الخيارات ومن ضمنها تزويجها بأحد خيرة شباب القبيلة؛ ولكن باءت كل محاولاتهم في ردعها عن الزواج من حبيبها بفشل ذريع. وأثناء جدالهم وارتفاع أصواتهم، وقف جدي بينهم فجأة، فصمت الجميع.

سألها بحزم وبصوت عال: " اخبريني، هل أنت مصرة على المضي، رغم كرهنا جميعاً هذا الزواج ؟! وقفت وأجابته بثقة: "نعم أنا مصرة تماماً، ولن أتردد أو أترك هذا الأمر "

صمت جدي، ثم أمر بتزويجهما فوراً وحالاً، ورغم نظرات الاستنكار والاحتجاج، لم يجرؤ أحدهم أن يعارض موافقته".

تراجيديا الحرب وعناقيد الحزن والغضب

وتنقل لنا "الشحرية" لوحة بانورامية مؤثرة عن أثر الحرب وجراحاتها الراعفة، والتساؤلات التي تخلفها في نفوس الأطفال الأبرياء؛ فتقول: لم نكن نحن الصغار نعلم لمَ قامت تلك الحرب، ولمَ ذلك القتال، ولماذا تحلق الطائرات وتقذف النار والقنابل على الناس والحيوانات والمراعي، لماذا يأسرون الآباء ويتركون خلفهم أبناءهم ينتحبون، لماذا تهدم البيوت، ويتركون أصحابها يباتون في العراء كاللاجئين الذين لا وطن لهم، لماذا يحطمون الأحلام ولا يتركون لنا حلماً واحداً نعيش عليه" ص 17-18.

ولكن طفول عرفت مع معترك الأيام جواب تلك الأسئلة العتيدة، واكتشفت سر التحدي والصمود لدى الثوار " كان يعلم أبوها بأن السلطة تبحث عنه لأسره، ولكنه رفض الهروب وقال: " لن أهرب " وسأدافع عن مبادئي حتى آخر رمق، وسأنتصر وأعود من أجلكم ومن أجل وطني وأولادي" تذكرت "طفول" ذلك الحوار فقالت:

الآن فهمتُ معنى أن تحارب من أجل مبادئك وكرامتك، ومعنى قصة شعبنا والثورة ص39

الدلالات المنثورة في أحاديث المآلات

ليس من اليسير حصر كل أوجه الجمال وحكايات النضال، التي أبدعتها " نور" في أسطر معدودة. فخلف كل سطر في الرواية، يكمن ألف معنى ومقصد وحكاية؛ غير أني سأسلط الضوء على بعض ما جاء فيها من مواقف مميزة:

- لم تنس "نور" ذكر أولئك الأبطال الذين شاركوا في الثورة، من دول الخليج" كالبطل الكويتي احمد الربعي".. "والمناضلة البحرينية الباسلة المعلمة "هدى" أو "ليلى فخرو" وكذلك الأستاذ البحريني "يوسف طاهر" الذي هو "عبيد العبيدلي. ص 129

وثمنت وجودهم في الثورة بقولها الرفيع:" كم هي جميلة لحظة تخطي الحدود والتجرد من العرق والعنصرية؛ والانسجام مع الضمير والإنسانية فقط" ص 152

- وعندما أجبرتها الحرب على مغادرة ظفار لليمن، كتبت تقول عن فيض الأحاسيس التي اجتاحتها لحظتها

 "فحين تنفيك الحرب، ونلفظك خارج ديارك، تشعر باليتم والانكسار والحنين، ومهما كنت مستقراً جسدياً، إلا أنك نفسياً لا تهدأ أو تستكين، حتى تعود وتُقبل ذلك التراب الذي إليه تنتمي؛ "ظفار" حبيبتي وأجمل ذكرياتي، ذكريات أمسيات "النانا" والقصائد على رائحة الحطب مع وجوه مفعمة بالحب، ووجوه تحب الحياة، وتعشق الحرية والكرامة" ص 110

- وعندما حصل التغيير في "سلاطين" الحكم في البلاد؛ عبرت عن أثر ذلك في نفسها، بلغة رزينة خالية من الرياء والنفاق والملق، فكتبت تقول: " تتغير الحياة والأوضاع وأداة البناء مثلما تتغير أفكارنا ورغباتنا واحتياجاتنا وأحجامنا، لكن تظل هناك تفاصيل لا تتغير بل تتأصل في داخلنا أكثر ص122 ..

كنت كمن يعيش حلماً بل هو كابوس، شعرت بأن الذين حولي جاؤوا من زمن آخر، وعالم مختلف لا يشبهني ولا أشبهه"

 ( وهنا نقرأ شعور الأحرار الطبيعي بالاغتراب في الأوضاع التي انكسرت فيها أمانيهم بحياة أفضل وأنبل) وقد صرحت بذلك حين قالت: " كنت أشعر بالحسرة لرحيل أبي والثوار بتلك الصورة المؤلمة، ولكن الواقع دائماً يفرض نفسه بقوة. وسبحان من لا يحمد على مكروه سواه" ص 109

- وتحدثت نور عن البرامج التلفزيونية في البدايات الأولى لتغيير الحكم، "التي كنا نستمتع خلالها بكل ما يبثه تلفزيون سلطنة عمان.. " بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدادي، وفي المناهج الدراسية أرضعونا منذ الصغر" فلسطين داري ودرب انتصاري "علمونا قوميتنا ووطنيتنا وتاريخنا العربي المشرف من الابتدائية..  كان المنهج العماني زاخراً بالقيم مليئاً بالفضائل، متشبعاً بالخلق الحسن، يدرب التلميذ تدريجياً على اكتشاف مروءته، ويشعل عنفوانه وحماسه بتهذيب ورقي، كانت سياسة السلطنة تربي الكيان وتطوعه وتهذبه"

       هذا كلام سليم يا أيتها الأديبة "نور"، ولكنه كان موجهاً للأجيال التي عاشت في كنف "الثورة" ذات يوم قريب، وتشبع فكرها بقيمها ومبادئها، حتى وهي في صفوف السلطة؛ وليس كخطة استراتيجية طويلة المدى للنهوض بأبناء الوطن، فتلك الأفكار الوطنية المنثورة في البرامج والمناهج حينها، كانت من ضمن خطة وضعت لسحب البساط التدريجي من تحت أقدام الثورة؛ إذ سرعان ما اختفت تلك الأفكار ومفرداتها النيرة، وحلت محلها أفكار ومفردات الغثاء والتفاهة؛ من مثل :

كرتي كرتي ما أحلاها

ما أجملها ما أبهاها

 كرتي تعلو فوق السقف

 وأنا وأخي يعدو خلفي

من يلتقطها دون الثاني

 فهو الرابح في الميدان

كرتي.......كرتي

وكذلك هذا "النشيد الوطني الهادر !!"

ديكي ديكي ما أحلاه

هذا ديك أنا أهواه

ما أجمله ما أبهاه 

في مشيته ما أحلاه 

وله صوت لا أخشاه

وله ريش ما أغلاه

قد ينشره عند خطاه

لا ينقرني إذ ألقاه

ربي احفظه

ربي ارعاه

يا الله يا الله

فلهذه الأديبة الرفيعة نور بنت غفرم الشحرية أرفع القبعة، لتقدمها الصفوف في غير ما تردد أو خوف، فكتبت للأجيال ملاحم النضال العتيد لهذا الشعب العظيم في روايتها الخالدة المؤثرة "قصة شعبنا والثورة".

تعليق عبر الفيس بوك