زهران بن زاهر الصارمي
أخي وصديقي العزيز الكاتب المبدع الأصيل/ زاهر بن حارث المحروقي المحترم.
تحيةً لك من القلب، ملؤها المودة والاحترام والتقدير.. وبعد،،،
أعلمُ أني تأخرت عليك كثيرًا في كتابتي لك هذه السطور.. ولكنها الحياة وما تلقيه على الإنسان من تكاليف وتبعات مُرهقة في صحته وقدراته الجسدية والفكرية؛ فمِنك المعذرة على هذا التقصير الذي حتمته عليَّ الظروف الذاتية والموضوعية.
قرأتُ كتابك الرائع والمُمتع "سارق المنشار"، وأخذني إلى عوالم ملؤها الألم والتأمل؛ وجعلني في كثير من مواقفه المؤلمة أستحضر بيت شعر سليمان العيسى:
الصادقون يتامى في مدينتنا // في جيلنا يمضغون الليلَ والألمَ
وجعلني أيضًا أهتفُ من أعماقي في كثير من فصوله مع أبي الطيب المتنبي:
ولو لم يعلُ إلّا ذو محلٍ // تعالَ الجيشُ وانحطّ الرغامُ
فقد كنتَ يا صديقي في وظيفةٍ أنت أكبر منها بمراحل، وكنتَ أنت من يُعطيها من الجهد والإبداع والإخلاص أكثر مما تعطيك من المال والاهتمام؛ بل إن تلك الخِلال التي تمتَّعتَ بها والقيم النبيلة التي كنتَ وفيًا لها حتى النخاع، كانت مصدر الإزعاج والانزعاج عند غيرك ممن يُحيطون بك في بيئة العمل التي كنتَ بها؛ فكنتَ في نظرهم "الرجل المشاغب الصانع للمشاكل"، وتلك شهادة من حقك أن تفخر بها؛ كما يفخر الشرفاء بوسام اعتراف خصومهم بهم في ميادين الكرامة والشرف.
فقد كنتَ تسبح في بحيرة ملؤها التماسيح والحيتان وأسماك القرش، وعلى شواطئها يترصدك "ميرسو" وجماعة "باتلر"؛ فتَلقَى منهم العنت والأمريْن إلى حد امتهان كرامتك بالاعتقال والتفتيش المُهين لمنزلك؛ فثارت عِزة نفسك عندها، وصرختَ فيهم بالحقيقة المُرَّة الصادمة الصائبة "تركتم اللصوص الذين يسرقون البلد، وجئتم لتقبضوا عليَّ أنا؟!" (ص 145). لقد بلغ مبضع الجرّاح الذي حملتَه عظمَهم ببرنامجك الجماهيري الثوري "البث المباشر" حين عرَّتهم الجماهير على الهواء، وأبانت مفاسدهم وإخفاقاتهم المُزرية في الإدارة، فكان لا بُد لهم من الانتقام منك بإيقافك ومحاكمتك بالتُهمة التي تُرفع في وجه كل من لا تهمة عليه؛ تهمة "تحريض الرأي العام" و"النيل من مهابة الدولة"؛ ما ورّثك الحُزن الغامر والأسى الممض حد انعزالك عن الناس، وتفضيلك مكابدة سهر الليالي في العمل.. "سنوات العزلة الليلية التي قررتُ فيها اعتزال الناس" (ص 165).
ولقد أبان لي كتابك الثمين عن تلك المعارك الطاحنة المُحتدمة التي تدور رحاها خلف كواليس مؤسسات الإذاعة والاعلام، بين الوطنيين الشرفاء؛ أمثال: خليفة الطائي وأحمد الفلاحي وعبدالله خميس وعبد العزيز بن علي السعدون، والإعلامي المتألق خالد الزدجالي، وزميلكم الراحل سعيد بن محمد الزدجالي، وبين آخرين أشهروا في وجوهكم شتى ضروب تكسير المجاديف الإدارية من شللية ووصولية ووشاية وانتهازية، بلغت في ضراوتها حد إخفاء وطمس تسجيلات تاريخية ثمينة لكم مع عدد من الشخصيات المُعتبرة.
حالٌ من المعاناة والاحباط والنكد، أوصلك حد التفكير في الهجرة خارج البلد "وكنتُ من الذين فكروا جديًا في لحظات إنسانية صعبة في مغادرة عُمان" (ص 156)، ولكنك لم تفعل، وحسنًا أنك لم تفعل، فهجر الأوطان في هذا الزمان خاصة، فيه خذلان وهوان لها وللإنسان المهاجر، ولا يُحدث في أوضاعهما البائسة أي تغيير أو أثر يُذكر. وهو بقاء في الديار عبر عن مضاضته المتنبي منذ بعيد حين قال:
ومن نكد الدنيا على الحُر أن يرى // عدوًا له ما من صداقته بُدٌّ
ولقد ظهر وطيس تلك المعركة المحتدمة في الإذاعة في أكثر من موضع من كتابك القيّم؛ فمن "أزمة السيناريو" المُتعلِّق ببعض البرامج الإذاعية، ورأي عبد الله خميس الذي عبَّر فيه عن "التأثير المُمتد لقسوة الرقابة الصارمة ذات المحظورات والمُحرَّمات الكثيرة التي أدَّت إلى نشوء نوع من الدراما الجوفاء ذات القضايا غير المُرتبطة بالمجتمع، والتي تبدو أحداثها تدور في أي مكان آخر في العالم إلا على ترابنا" (ص 281).
ولقد أبنتَ بشكل رائع وصحيح 100% عن معاناة الكتاب الشرفاء من كلمة "مرفوض" التي "لن يخرج من فزاعة رقابتها إلّا جيل جديد ينشأ في مناخ الرفض للسائد والمهيمن، ولعل الوقت قد آن لتطلع أقلام متعطشة للحرية، أكثر من أولئك الذين رضخوا مع الزمن لمقص الرقيب ومتطلباته" (ص 281).
بيئة عمل سقيمة وعقيمة تلك التي عشتم بها، كان ديدنها الخنق والتغييب وإنكار جميل العاملين المُخلصين فيها، ما فجَّر في أعماقهم ردة فعل كاوية من السخط والحنق جعلت مثل خليفة الطائي يعلن: "أن المبادئ ما تأكل عيش.. ويرى أن ترديد عبارات التمسك بالمبادئ والمثل العليا إنما هو للفقراء وليس للأغنياء" (ص 288).
وهو أمر يُذكرني بالقول الشهير "الوطنية للفقراء... والوطن للأغنياء"! فعندما تقع الحرب يُنادى على الفقراء لافتداء الوطن، وعندما تضع الحرب أوزارها يتنادى الأغنياء لاقتسام الغنائم.
ومن واقع الخيبة والإحباط والنكد الذي عايشتَه في عملك، لخصتَ خبرتك بقولك: "أحسِنْ أيها الموظف كيف ومتى تشاء، فلن يشكرك أحد، على اعتبار أن هذا واجبك أصلًا؛ ولكن جرب أن تخطئ مرةً واحدةً، ولو خطأ بسيطًا، فلسوف يُنسى كل تاريخك المشرف في العمل، وستعاقب على هذا الخطأ البسيط وكأنك ارتكبت جريمة (لا تغتفر)؛ بل إن هذا العقاب قد يطالك أحيانًا لمجرد أن المسؤول تصور أنك مخطئ حتى وإن لم تكن مخطئًا" (ص 211).
تلك حقيقة مؤلمة لا يعرفها إلا من غص بها. ومن غص بها كُثرٌ يا صديقي في مؤسسات الدولة؛ حيث يستوي فيها العامل والخامل، الذكي والغبي، المخلص والفاسد، المُجِد المثابر في عمله، مع العاطل الخائر العزم؛ والأمَرُّ من ذلك والأنكى أن نجد الخامل، والغبي، والفاسد، والخائر العزم، هو من يُحظى، في الغالب، بالترقية والرعاية والتكريم!
واقع من الميلودراما العصيَّة خلقت عندك القناعة "بأن السياسة هي لعبة قذرة، وفي سبيل تحقيق أي مكسب، يمكن اللجوء إلى أساليب رخيصة ودنيئة، وأنه لكي يحتفظ الإنسان ببراءته، عليه أن يبتعد عن عالم السياسة" (ص 47).
وهو أمر لا أراك صائبًا فيه يا صديقي، فأنت ذاتك قامة من قامات السياسة في هذا الوطن، وكتاباتك السياسية الوطنية خير شاهد على ذلك؛ وابتعاد المفكرين والأدباء والمبدعين عن عالم السياسة هو غاية ما يتمناه الغوغائيون والمُفلسون والفاسدون والانتهازيون في هذا الوطن؛ فابتعاد أمثالك من الوطنيين المُخلِصين عن عالم السياسة يُخلي الساحة لأولئك القوم العابثين، ليصدق فيهم قول الشاعر:
يا لكِ من قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرَةٍ // صفا لكِ الجوُّ، فبِيضي واصفري
ونقِّري ما شِئتِ أن تُنقِّري // قد ذهب الصيّاد عنكِ، فابشِري
إنَّ الإعلام ليس "مصنعًا لرجال الدولة فحسب، ولا الذي يُبرز الكُتّاب والمبدعين فقط"، وإنما هو أيضًا وأولًا أخطر مؤسسة في الدولة، منوط بها "صناعة الفكر وتوجيه الرأي العام بكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية"، والذي يحكم العالم اليوم هو "المال والإعلام"، والدول التي حققت قصب السبق في هذين المجالين، هي الدول التي لها السيطرة اليوم والسيادة على العالم. فلا غرابة أن يحتدم الصراع في السيطرة على مؤسساته، وأن تتكسر النصال على النصال في مختلف مجالاته، لتضمن الدول السيطرة على أوضاعها وبسط نفوذها وفرض سياساتها الداخلية والخارجية.
وكان قدرُك الصعب في هذه الحياة، يا أيها الحُر، أن تعمل في "عش الدبور" وغرقتَ في معمعة الكفاح فيها، حدًا أنساك عُمرك وعلاقاتك الاجتماعية بمن تُحب؛ واستفقتَ يومًا، بعد أن زال الرحيق، واكتشافك بعد فوات الأوان، بأنك رغم الكد والجد والاجتهاد العنيد، "لم تنل من حطام الدنيا غير الفتات"؛ فانطلقت من أعماقك صرخة الحسرة "أنا من ضيَّع في الإعلام عمره" (ص 14)، وأُجزم بأنها صرخة يتقاسمها معك الكثيرون من المُخلِصين الأكفَاء، المغموطة حقوقهم في كثير من المؤسسات.
ولقد قرأتُ في متن كتابك الكثير من الأفكار الجديرة بالحوار، والتي تمثل خلاصة تجربتك الرائدة في الحياة واستنتاجاتك الرائعة المتأتية عنها مثل: "أن الناس الآن لم تعد تشغل بالها قضية الموت، لأنه- أي الموت- أصبح كالهواء، يتنفسه الإنسان طوال ساعات يومه" (ص 241).
وما ذهبتَ إليه صحيح 100%؛ وهو مؤشر رهيب على تأثير الإعلام في النفس البشرية، حدًا أوصلها مستوى "تخدير" الضمير والمشاعر في أعماقها الدفينة، ولكنه- يا صديقي- في الجانب الآخر، شرٌّ لا بُد منه؛ فهو أمر يضعنا بين مفترق الطرق؛ إما أن نرى العالم كما هو على حقيقته المُجرَّدة المُرَّة، فنُحيط علمًا بما يجري حولنا، والعلم خير من الجهل؛ وإما أن نعيش في هذا الزمان كالطُرشان في الزَفَّة. وما أخزى وأمَرّ من الجهل في زمن العلم والمعرفة.
وقولك إن "ثقافة" الناس أصبحت ثقافة الهضم السريع، مثل "الساندويتشات"؛ فبالرغم من توسُّع وسائل الاتصالات وتنوعها وسهولة الحصول على المعلومات، إلّا أن ثقافة الناس تراجعت كثيرًا.
وهذا القول هو الآخر صحيح 100%؛ ففي كتابي "أوار اللهب" الصادر عن "دار سؤال" في العام 2016، كتبتُ في فصله الأول الذي حمل عنوان "الربيع العربي بين مطرقة الأعداء وسندان المثقفين" ما نصه في الصفحة 21: "ولكننا في عصر لا تحتمل فيه أوقاتنا وعقولنا غير’الساندويتشات‘ من الأفكار والمعلومات، غير قراءة ’المُختصرات والمُلخَّصات‘ التي تعرض ’زبدة‘ الموضوعات؛ وما عليَّ سوى احترام خصوصية الزمن أعيش فيه"!
ولكن لعلي هنا أستبدل كلمة "الثقافة" بـ"الوعي".. إلّا إنْ كنتَ ترى أن "الثقافة" هي الكلمة الرديفة لـ"الوعي"، فذاك أمر آخر جدير بالتأمل والحوار.. أما من حيث إن "الثقافة" هي كمية المعلومات التي يحيط بها الفرد؛ فما أكثر المثقفين في هذا الزمان يا صديقي!
وأخيرًا وليس آخرًا.. وقفتُ مُطوَّلًا عند قولك "فيصل القاسم فقد شخصيته الرزينة ببرنامجه التهريجي ’الاتجاه المعاكس‘ لأن شبكة محترمة مثل ’بي بي سي‘ لم تكن لتسمح بهذا الاستهتار بالمشاهدين أو المستمعين". (ص 200).
وهنا أستميحُكَ العذر في أن أختلف معك في الرأي؛ ففي رأيي أن شبكة "بي بي سي" هي شبكة غير شريفة وغير مُحترمة، وإنما هي تخدم أجندة خبيثة رجعية واستعمارية مدروسة مُوجَّهة ضد الشعوب العربية وقضاياها التحرُّرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.. وفيصل القاسم لم يفقد شخصيته الرزينة ببرنامجه "الاتجاه المعاكس"؛ بل اقتحم في جُرأة وجسارة مُنقطعة النظير الحصون التي كان يتمترس خلفها الحكام الفاسدون والطغاة المستبدون المتحكِّمون في مصائر شعوب هذه الأمة، والكاتمون على أنفاس وأفواه أحرارها، ببرنامجه الجريء الفذ المُعبِّر عن الرأي والرأي الآخر، الشبيه إلى حدٍ ما ببرنامجكم الجماهيري الثوري "البث المباشر"، الذي اغتاظ منه كثيرون؛ فحاربوكم حتى اغتالوا تجربتكم وأجهضوا برنامجكم المشروع. ولم يكن القاسم قصده الاستهتار بالمشاهدين أو المستمعين، وإنما تبيان ما يجول في العقول، ويجيش في صدور أبناء هذه الأمة، حول الهموم التي يعيشونها في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. كان قصده منه نشر الغسيل، وفتح الدمامل المليئة بالقيح القابعة تحت أديم الوجوه البراقة الزائفة..
أما ما كان يحدث من مُهاترات في ذلك البرنامج، فكان مردُّه للنخب المتحاورة، التي عرّاها الحوار وكشف عن مدى هُزالها وسقمها وضيق أفق التفكير عندها، وليس الذنب ذنب فيصل القاسم المثقف الثوري الذي أرعب الحكام المُستبدين والظالمين، وقَلَبَ الطاولة في وجوههم، وجعلهم يحسبون ألف حساب وحساب لشعوبهم، من بعد دفنهم إياها وتغييبهم في غياهب الجب لأصواتها الحُرة المُستغيثة.. لقد كان فيصل- وقناة الجزيرة التي ينتمي إليها- بلسم الجراح والنافذة التي تنفَّس فيها الصعداء أحرار وشرفاء هذه الأمة.
ولي في ذلك مقال مطول اسمه "قناة الجزيرة ذلك الإعلام الأحمر"، موجود في كتابي "أوار اللهب".
لقد قضيتُ أوقاتًا مُمتعة عامرة بالفكر في رحاب كتابك القيِّم "سارق المنشار"؛ فشكرًا لك على أخذك إيَّاي في نُزهةٍ جميلةٍ للعقل والروح.
ولك التحية والمحبة والاحترام من أخيك.