ملائكة العطاء والمشاعر

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

جلست على شاطئ البحر أسامر أمواجه المُتلاطمة وأتأمل وقت غروب قرص الشمس المتوهجة وتواريها عن الأفق، بعد ما كانت ترسل خيوط الضوء فتشرق الأرض بنورها، وتذكرت حينها أرواحا تجرعت من شَهدِ هذه الحياة، ثم مضت وانتقلت، فكان مِن بينها أرواحٌ عظيمة خلدَت آثارًا نُقشت على صفحاتِ الزمان والمكان والأرواح؛ حيث جعلت من  الإحسان منهجًا وسبيلاً ومن جودة الأداءِ دليلًا، ومن الإخلاص منهجاً، ومن إتقان العملِ طريقاً ومتكأ، فباتت معالِمُها ظاهرةً يرويها القاصي والداني، ويهدي فيها وصفتها الملهمة للإيجابية والقيادة والعطاء، ويسرد سر قيادتها للتغيير وتحقيق الإنجازات العظيمة، ابتسمت وأشعلت النور؛ لأقرأ حروف كتاب الأثر الجميل الذي تركته على مسرح الحياة، لقد أخذت في هذه الحياة كثيرًا، أعني: لقد أعطيت في عالم الروح ما لا يعد ولا يحصى!

بينما تذكرت أرواحا تلاشت معالِمُها، وذهبَتْ آثارها أدراج الرياح خلف ذلك الحطام بمجرد عناق أول حبة رمل من مثواها الأخير قال الله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" (يس: 12).

فلا لمصادرة الفكر، فمن حقي أن أعبر عن مشاعري تجاه أصحاب العطاء والفضل، فالدخول إلى عالم  من أسدى لنا وفاءً ومعروفا حين رمتنا الناس على حين غرة بقوسها وأنسلت، فقدم لنا ما يعجز أن يقدمه الأخ لأخيه، رب أخ لم تلده أمك، ورب ضارة نافعة، مغامرة لا يرومها ويقدر عليها إلا الحاذق الفطن ذو الموهبة الراسخة المتمكن من أدواته وقدراته، والكيس الفطن، وأني لصعلوك أمام  تلك الإمكانيات والمواهب والسجايا، إنه اجتراء غير سهل على اقتحامي للحديث عن رجل مغمور صامت حكيم، يدير ظهره عن من يعطيه كي لا يرى حيائه عاريا أمام عينيه، فكم لاقى المصاعب والمحن بنفس مطمئنة، والحق أن ما أفعله هنا ليس اقتحاما بقدر ما هو مقاربات وملامسات، من على بعد أرجو ألا تكون فيها مزلة قدم، أو عثرة قلم، أو استنقاص روح عظيم. فشُكرًا وثناءً لأرواحٍ شامخة وعظيمة، ما فتئت تُقدّم عطاءها، كالشمس ترسل خيوط الضوء فتشرق الأرض بنورها، فبوركت تلك الأرواح في خطواتها وأدائها. فهي عقول تبوح بفيض عطائها وخلاصة تجربتها... عازمة على أن يكون همها التنوير والتجديد وبناء أمة منتجة طامحة للمقدمة ومشاركة العالم الإنجاز والعطاء. ولسان حالها يقول: "نحن لا نموت حين تفارقنا الروح وحسب، نموت قبل ذلك حين تتشابه أيامنا ونتوقف عن التغيير، حين لا شيء يزداد سوى أعمارنا وأوزاننا" (نجيب محفوظ) "إذا لم تزد على الحياة شيئًا تكن أنت زائدًا عليها!". (مصطفى صادق الرافعي) "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الأنبياء: 105).

تتسابق الكلمات وتتزاحم العبارات لتنظم عقد الشكر الذي لا يستحقه إلا العظماء من ملائكة العطاء والمشاعر، أصحاب الأخلاق السامية السامقة، فشكرًا لتلك الأرواح الجميلة من أعماق قلبي على عطائها الدائم، والذي تعجز حروفي أن تكتب لها كل ما حاولت ذلك، فما أروع عطائك أيتها النفوس الزكية وما أنبل كلماتك فهي كسبائك من ذهب، حروف قد انتفضت من بين ثنايا القلم وانتثرت من ظلال الجدران وقصاصات الخيال؛ لتعانق النور، وتنسج على عتبات الواقع، معاني تجد فيها كل ما يلامس وجدانك ويحرك ضميرك ويداعب فيك روح العقل والفكر، ويستثير كل ما فيك من روح الأمل، بهدف سلب العقول واستقطاب الأفئدة والتي تجمع بين غزل الآراء ونسج الكلمات مفعمة بروح الإخلاص.

وقانا لفحة الرمضاء واد // سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا // حنّو المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا // ألذ من المدامة للنديم

براعى الشمس إني واجهتنا // فيحجبها ويسمح للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى // فتلمس جانب العقد النظيم

يُقال إن: بعض البشر.. حدائق! تَسْتَوْطِنُـهَا الورود.. مُمَيَّزون ولَهُمْ فِي القَلْبْ.. نبضْة!! بَلْ هُمْ نَبْضُ القَلب، فهم آيادي بيضاء تخرس دونها ألسنة الشكر وتضيق عنها جرائد الحصر. فنحن لسنا سوى بشر يخطئون، وتنسينا الأيام أمانينا، وتلبسنا أمجادا وإنجازات نتعرض للإساءة ونظلم بدون حق ونقهر ونُصادر في فكرنا وقناعات من حولنا وتواجهنا الحياة بخيلها ورجلها بحوائط الصد، ولكنا نمتلك القدرة على التغيير نحن الأفضل على الرغم مما يتقاذفنا من أمواج الفتور والوهن.

سَأَشكُرُ عَمرًا أَن تَراخَت مَنيَّتي // أَياديَ لَم تُمنَن وإن هيَ جَلَّت

فَتىً غَيرُ مَحجوبِ الغِنى عَن صَديقِه // وَلا مُظهِرُ الشَكوى إِذا النَعلُ زَلَّتِ

دعني أنقلك إلى  مجلس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة ملتفُّون حول حبيبهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتَمُرُّ جنازة، فيَرْمقها الناس بأبصارهم، وإذا الألسُن تُثني على صاحبها خيرًا، فقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((وجبَتْ، وجبتْ، وجبت))، ثم مُرَّ بِجنازة أخرى، فإذا ألسن الناس تثني عليها شرًّا، فقال رسول الْهُدى: ((وجبتْ، وجبت، وجبت))، وأمامَ هذا الاستغراب والاستفهام من الناس، يأتي التَّعليق النبويُّ بقوله: ((مَن أثنيتم عليه خيرًا، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)).

  فالكلُّ راحِلٌ عن هذه الدار، ولكن الشأن كيف سيكون هذا الرحيل؟ وماذا سيُقال عن هذا الراحل؟ مستريح أو مستراح منه، فالحياة مسرح.. ونحن ممثلون فلنلعب دور البطولة، وليكن مسرحنا إبداعا وإتقانا، وفاء وإخلاصا، وإيثارا وإحسانا، إصلاحا لا إفسادا، رحمة وحكمة، لا عنفا وجهالة، فرجة ومتعة، لا هما وغما، ولا لهوا وتفاهة، فلم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا، فشكرًا لكِ أيتها الروح العظيمة فقد استخرجت الدرر ونسجت خيوط الهمة والنشاط، فالبصمة الجميلة تبقى وإن غاب صاحبها. "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" (الشعراء:٨٤)، ولو كانت هناك طريقة سهلة بدون تعب وكدح ومشقة توصل إلى النجاح، لما احتاج أنبياء الله- عليهم السلام- إلى تلك الصور الخالدة التي سطرتها سجلات الزمن وأسفار الصحف من التعب والكفاح المضني للوصول برسالاتهم السماوية، فليست كل العواصف تأتي لعرقلة الحياة، بعضها يأتي لتنظيف الطريق،

إنَّ الكِرًامَ وإن ضَاقَت مَعِيشَتُهُم // دَامَت فَضِيلتُهُم والأصلُ غلَّابُ

لِلهِ دَرُّ أُنَاسٍ أينَما ذُكِرُوا // تَطِيبُ سِيرَتُهُم حتَّى وإن غَابُوا

ولسان حال صاحبنا يردد: أريد أن يقول عني من يعرفني بأنه كان ينتزع الأشواك ليزرع الورد أينما ظن أنه سينمو، فلم أر عبقريا يفري فرية مثله. فبوركت تلك الأرواح في خطواتها وأدائها.

يلومونني في حب ليلى عواذلي // ولكنني من حبها لعميد

تعليق عبر الفيس بوك