د. محمد بن عوض المشيخي **
الإبداع عالم مُنفرد بذاته يتميز بشخوصه الذين يختلفون عن عامة النَّاس في كل شيء من حيث التفكير والسلوك والإنتاج والتفاعل مع الآخرين، وفي كل مجتمع نجد الإبداع ينحصر عند عدد قليل من الموهوبين الذين خصهم الله بتلك المهارات الجمالية عن غيرهم من البشر؛ فالعمل الإبداعي يحمل مواصفات استثنائية وبصمات فريدة، وجودة منقطعة النظير، تجعل من أصحابها يشار لهم بالبنان؛ كون أن عملهم يرفعهم إلى عنان السماء وإلى أعلى مراتب التفوق والنجاح.
صناعة الإبداع بكل أنواعه وألوانه المعروفة التي تسعد القلوب وتقنع العقول، أصبحت منتجًا نادرًا، مثل الجواهر الثمينة، أو ظهور البدر في الليلة الظلماء، ومن محاسن الصدف أن يشهد بلدنا الحبيب سلطنة عُمان يومي الأحد والإثنين الماضيين حدثًا استثنائيًا بكل المقاييس، كتب فيه المبدعون في الأمانة العامة لمجلس الوزراء فصلًا جديدًا من المجد، يُضاف إلى ما تحقق من مُنجزات جديدة في نهضة عُمان المُتجدِّدة التي يقودها بحكمة واقتدار ربان السفينة ورائد الفكر والإبداع حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- والذي يحرص دائمًا على نهج التواصل المباشر بين الحكومة والمواطن؛ لتمكين المجتمع من المشاركة في صنع القرار، من خلال سياسة الأبواب المفتوحة واللقاءات المباشرة.
إنِّها قصة نجاح انفردت بها عُمان عن غيرها من دول المنطقة، وتجلّت في ملتقى "معًا نتقدَّم" في نسخته الثانية، التي كانت على غير العادة في تنظيمها ومختلفة في مواضيعها المطروحة، والتي اعتمدت بالدرجة الأولى على المجتمع العُماني الذي أتيح له اختيار المواضيع التي يجب أن تكون لها الأولوية في هذا الملتقى؛ إذ تم التصويت عليها من خلال القنوات الإلكترونية الاتصالية المتاحة، كما دُعي مختلف أفراد المجتمع العُماني من خلال التسجيل الإلكتروني لحضور الملتقى، فكانت هناك غاية نبيلة وهي أن يكون هناك تمثيل عادل لمختلف شرائح المجتمع من شتى ولايات السلطنة الـ63، وأن يشهد الملتقى حضورًا قويًا لطلبة المدارس والجامعات والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة، وممثلي المجتمع المدني على نطاق واسع، وأقل ما يُمكن أن نصف به هذا الحدث الاستثنائي أنه "برلمان عُمان المفتوح" الذي جمع الحكومة ممثلة في أصحاب السمو والمعالي صُنّاع القرار في هذا البلد العزيز، والمواطنين الذين توافدوا من مختلف المحافظات، وذلك من خلال أرضية صلبة وحوار جاد بين الحكومة والشعب دون حواجز.
مثل الملتقى عصفًا ذهنيًا مُتقدمًا وحوارًا لا تنقصه الصراحة، وجلد للذات أقرب منه للاستجواب من أجل أن تبقى عُمان شامخة وفق ما أرادت لها القيادة الرشيدة لهذا البلد؛ إذ تحوّلت قاعات مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض- وعلى مدى يومين- إلى خلية نحل. وقد ارتفع خلال الجلسات الحوارية سقف النقاش إلى أعلى المستويات بين المستهدفين من التنمية والمستفيدين من الخدمات الحكومية من طرف، وصناع القرار الذين وجدوا أمامهم وتحت سقف واحد من يُبلغهم مباشرة بالتحديات التي تواجه تلك السياسات التي تنتهجها وزاراتهم ومدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040" من طرف آخر.
كان النجم العالي المتلألئ في هذه التظاهرة الوطنية غير المسبوقة، صاحب السُّمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، الذي لم يكن فقط راعيًا للملتقى؛ بل كان بلسمًا على الجرح لكل الحاضرين، فقد أبهرنا جميعًا بتواضعه وأخلاقه الرفيعة، وشخصيته النادرة، وكأنه أتى من كوكب آخر، والأهم من ذلك كله اهتمامه الشخصي بالمتحدثين من الشباب، فكان يُشجِّع الكل على طرح الأفكار النقدية دون رقابة أو مُجاملة، فمن مكاسب هذا اللقاء الوطني التعرُّف عن قرب على هذه الشخصية الأسطورية التي نُعدها كنزًا ثمينًا للوطن والمواطن.
يبدو لي أنَّ حلحلة المشاكل المُستعصية ليس بالأمر السهل، فمن خلال متابعتي للملفات التي طُرحت في هذا الملتقى المبارك، يمكن أن نستنتج الآتي:
أولًا: هناك وزارات على رأسها قيادات ناجحة عملت طوال السنوات القليلة الماضية دون كلل أو ملل، على مواجهة التحديات وتذليل الصعاب، وتفكيك المعوقات التي تواجه المجتمع، فكان حضورها في الملتقى، مميزًا، خاصة في عروضها التي تتحدث عن إنجازات واضحة المعالم، لكنها تدرك أن تحسين أدائها مرتبط بالملاحظات التي يسجلها المستهدفون والمستفيدون من خدماتها، من أجل تغيير المسار وتطوير الأداء الذي هو في الأساس بداية المشوار نحو تحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040".
ثانيًا: يوجد على الجانب الآخر فريق آخر من المسؤولين- وهم قلة- الذين يظهر على وجوههم التذمر والخوف وعدم الرغبة في مثل تلك الملتقيات التي تكشف المستور من التحديات والإخفاقات التي في واقع الأمر تحتاج إلى حلول جذرية من خارج الصندوق. هؤلاء الوزراء لا يريدون أفكارًا وأرقامًا وحقائقَ من المجتمع أو الصحافة، قد تخالفهم وتعارضهم الرأي، ولا تتفق مع أطروحاتهم ووجهات نظرهم وزعمهم أن كل شيء على ما يرام!
وفي الختام.. يجب أن يدرك الجميع أن الأداء الحكومي دخل مرحلة جديدة وغير مسبوقة من المكاشفة وجلد الذات؛ بل ومن الصراحة والشفافية والمراقبة، فلا مكان اليوم لمن يفشل في المهام والاختصاصات التي أُوكِلَتْ إليه عند تكليفه بالأمانة الوطنية، لخدمة هذا الوطن الغالي الذي يجب أن تكون رايته مرفوعة على الدوام من أبنائه المخلصين؛ فالوطن أغلى وأثمن من أن يترك للمقصرين والمتقاعسين خاصة الذين وصلوا إلى طريق مسدود في معالجة التحديات. ومن المؤسف حقًا أن يُستفز البعض الرأي العام العُماني؛ بتصريحات غير منطقية ولا محل لها من الأعراب، تحت سقف ملتقى "معًا نتقدَّم" وعلى وجه الخصوص في ملفات محتقنة وساخنة في الأساس، خاصة تلك المتعلقة بالتعليم وتوظيف المواطنين، فذلك أقرب منه إلى صب الزيت على النار دون داعٍ.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري