غزة وشتاءات الصمود

 

محمد بن زاهر العبري

كم من درس لقّنته غزة الصمود للبشرية من أقصاها إلى أقصاها؟! وفي الواقع فلقد غيرت نمط الحياة الروتينية الرتيبة إلى أخرى تضج بالعزيمة وتفور بالرغبة في التضحية.

لقد هيمن تأثير تضحياتها على قطاعات واسعة من العالم الغربي الذي كان الإعلام العالمي يصوره لنا مجتمعاً أكله الانحطاط ومزقته الرذيلة، وإذا بالعديد منهم استنهضتهم من سبات الميديا الغربي الوضيع توضحيات الأطفال والأمهات والشيوخ في غزة، فأخذوا ينددون بجرائم الصهاينة ويتساءلون عن سر هذا الصبر وذلك الإيمان الذي يملأ قلوب تلك الأمهات وهن يودعن صغارهن الوداع الأخير؟

وفي عالمنا العربي، قبل طوفان الأقصى، قصارى طموح الأطفال كان في زيارة ديزني لاند الداعمة للصهيونية، وأقصى هم المراهقين كان في عدم فوات أية مباراة من الدوري الإسباني لكرة القدم، أما الرجال فالجلوس في المقاهي، والتفكير في صعوبات الحياة الاقتصادية الضاغطة.

وإذا بغزة تغير وتتسرب في الأذهان، فتعمل على إيجاد تغيير هائل في الطموحات والرغبات والأمنيات.

الأطفال باتوا يسألون الآباء عن مقاطعة المنتجات الداعمة للصهاينة، ويحذرون من أكل الوجبات التي طالما اعتادوا أن يأكلوها، ففي حين عجزت نصائح وتحذيرات الأمهات أن تصرف نظرهم عنها بداعي الصحة، إذا بهم أبطلوا التفكير فيها تماما دعما لخيار المقاومة، والعيش بإحساس الجهاد والكفاح لأجل الحق والحرية.

عرف المراهقون أبطالًا جددًا يستحقون المتابعة الحثيثة وعن كثب لأخبارهم، فلقد استعاضوا عن الدوري بأخبار أبي عبيدة، البطل الحقيقي الذي يستحق أن تُحاك حوله القصص عوضًا عن باتمان وسوبرمان. وها هو نمط المحادثات في المقاهي يضع فلسطين في قوائمها أولًا، فذاك الذي كان بالأمس يفكر في توفير مستقبل مشرق لأطفاله ولا يجد له هما غير هذا، نراه يبدي استعداده لتبني أيتام غزة على الرغم من ضيق موارده المالية، ويشاطر نصف عيشه للمحرومين بلا مأوى أو ماء للشرب في بيت لاهيا أو جباليا أو الزهراء.

لقد كشف طوفان الأقصى نفاق الحكومات الغربية الكبرى من قبل أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ونفاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمات حقوق الإنسان وحتى اليونسيف، التي ليست إلا أدوات في اليد الصهيوأمريكية القبيحة، وعرف الناس بأن هؤلاء أعجز من أن يجلبوا حقًا أو يرفضوا باطلًا.

عرف القاصي والداني دجل هذه الحكومات وكذب شعاراتها، فها هي اليوم تنظر دون أدنى حراك للإبادة الجماعية لأطفال ونساء وعجائز غزة. هذا هو وجه العالم الغربي الذي كان قد بهرنا لسنوات بتقدمه العلمي دون أن نتمكن من أن نلحظ قبحه الأخلاقي وانحطاطه الإنساني.

المهم هُنا أن تبقى هذه المشاعر دافئة على مر الفصول، فلا تبرد في شتاءات الحياة القاسية، بل تظل تتوهج لأجل إخوتنا الذين يجاهدون لكرامتهم وعزتهم وأرضهم وحقوقهم السليبة.

يقول تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ" (التوبة:71)، ويقول الشيخ الشوكاني عند هذه الآية: "أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. فنسبتهم بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك".

خير ختام.. هل شاهدتم ذلك الفيديو الذي بثه الإعلام العسكري في غزة الأبية؟ ذلك الفيديو الذي يقوم فيه أحد المجاهدين بحمل عبوة بين يديه ثم يضعها على طرف دبابة العدو الغاصب ليحيلها إلى دمار دون أن يُصاب هو بشظايا الانفجار مع أن مقتله في هذه التضحية كان وشيكًا؟ أية عزيمة هي هذه؟ إنها تبعث على الفخر والاعتزاز.

لا تُبنى مثل هذه العزائم إلّا على الإيمان بوعود الله تعالى للمجاهدين بالحياة الأبدية، وأن النصر رهين التضحيات، ومآل الأرض آخر المطاف هو للصالحين، يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ". (الأنبياء: 105).

تعليق عبر الفيس بوك