د. محمد بن عوض المشيخي **
تتسابق الأمم والشعوب في هذا الكوكب الرحب لتقديم نفسها إلى العالم عبر منجزاتها الفكرية وإرثها الحضاري العريق وثقافتها الراسخة، وقبل ذلك كله ما يجب أن يُقدَّم من مساهمات اقتصادية وصناعية واجتماعية وإعلامية للإنسانية من حولنا، كما إن استقلالية القرارات السياسية والسمعة المُعبِّرة عن ثقل النظام السياسي والمستوى الذي وصل إليه المجتمع في الساحة الثقافية من العناصر الأساسية في تقييم القوة الناعمة في أي بلد من بلدان العالم، وقبل ذلك كله المكانة التي تتمتع بها السلطة التنفيذية التي تقود البلد في مجالات عديدة؛ أهمها: الشفافية والصراحة والقدرة على محاربة الفساد الإداري والمالي وتطبيق معايير الحوكمة والعدالة الاجتماعية في المناصب وتوزيع الثروة القومية بين أفراد المجتمع بعيدا عن المحسوبية والواسطة.
من هنا، ومنذ عقد تسعينيات القرن الماضي، انتشر العديد من المصطلحات في الساحة الدولية على نطاق واسع، ولعل أبرزها على الإطلاق ما يعرف بالقوة الناعمة (Soft Power) الذي يُمكن وصفه باختصار شديد بأنَّه "القدرة على الجذب والضم دون إكراه" والذي يعود إلى الباحث جوزيف ناي الأستاذ الجامعي المعروف في جامعة هارفرد الأمريكية الذي صاغ تعريف القوة الناعمة في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان: "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية"؛ فالقوة الناعمة تعني الإمكانات الاقتصادية، والمهارات العلمية، والإرث الحضاري التي تملكها الدولة أو الفرد في القدرة على الجدب والسيطرة الطوعية والرغبة الأكيدة دون إكراه.
وتتسابق مراكز الأبحاث المتخصصة في رصد القوة الناعمة سنويا والتي تعتمد على الاستطلاعات والدراسات العلمية في أكثر من 121 دولة حول العالم، ومن ابرز هذه المؤسسات البحثية التي اعتمدنا على نتائجها هذا العام والتي شملت مائة الف مبحوث هي: "براند فاينانس" البريطانية، فقد احتلت السلطنة هذا العام 2023 الترتيب الخامس وقبل الأخير بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والتريب 46 عالميًا ما بين 121 دولة حول العالم. صحيح أننا تقدمنا إلى الأمام من المركز 49 في العام الماضي، لكن نعتقد أننا نستطيع الوصول إلى القمة؛ فعُمان جديرة بالمراكز الأولى خليجيًا وليس ذيل القائمة، لكونها أقدم كيان سياسي في المنطقة وكذلك تتمتع بقبول عالمي من جميع الأطراف الإقليمية والعربية والدولية، فمسقط كانت وما تزال ملجأ لحل الصراعات وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين؛ لكونها تحظى بثقة كل الأطراف على مستوى الإقليم؛ إذ تقوم سياستها الخارجية على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى مما اطلق عليها بسويسرا الشرق.
وعلى الرغم من هذه النتيجة التي نطمح إلى تغييرها نحو الأفضل في اسرع وقت ممكن، وذلك لتتنساب مع ما تملكه السلطنة من مقومات فريدة للقوة الناعمة، وعوامل جذب قوية؛ لم تستغل بالشكل المطلوب حتى الآن؛ بسبب عدم نجاحنا في توصيل ما يزخر به هذا البلد من كنوز حضارية وإرث تاريخي عريق، وسياسة داخلية وخارجية مُتزنة شعارها السلام إلى العالم الخارجي. فمخرجات ونتائج رؤية "عُمان 2040" لم تظهر إلى العلن حتى الآن، وذلك لكي تساهم بشكل واضح في مكانة السلطنة وترتيبها في التصنيف العالمي للقوة الناعمة مثلها في ذلك مثل دول المنطقة الأخرى التي خطت خطوات متقدمة في الساحة العالمية، وذلك لأسباب تتعلق بعدم وجود نتائج ملموسة وواضحة المعالم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على وجه الخصوص لتلك الرؤية التي نتطلع إلى نجاحها ونقل السلطنة عبرها نتائجها إلى مصاف الدول المتقدمة كما ورد ضمن أهدافها المعلنة.
لا شك أنَّ رهاننا القادم يجب أن يتجه إلى وسائل الإعلام العُمانية، وكذلك رواد التواصل الاجتماعي وسفراء السلطنة وطلبتها في الخارج فهؤلاء دورهم مهم في إبراز القوة الناعمة للسلطنة، وذلك من خلال توجيه بوصلة الوطن وإنجازتها إلى مختلف دول العالم والتركيز على جودة ومضمون الرسالة الإعلامية المعبرة عن واقع المجتمع العُماني والعمل بشكل خاص على تحديد الجمهور في دول بعينها لتحقيق الأهداف الوطنية للسلطنة وطموحات شعبها نحو العالمية. من المميزات التي حبا الله بها هذا البلد العزيز الأمن والأمان بفضل الله وحكمة القيادة العُمانية وتميز المجتمع العُماني بالوسطية والاعتدال عن غيره من المجتمعات في دول العالم.
وعلى الرغم من ذلك، لم نجنِ ما يطمح إليه المجتمع في مجالات حيوية؛ كالاستثمارات الأجنبية والسياحة واستغلال الموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي الفريد بين قارات العالم بالشكل الأمثل. والشيء الجدير بالذكر هنا أنَّ مُعظم شعوب العالم لا تزال تجهل موقع السلطنة على خارطة العالم، ففي آخر زيارة لي للعاصمة اليونانية أثينا، لم أستطع العثور على يوناني واحد ممن قابلتهم يعرف عُمان، وحدث ذلك من قبل في أستراليا خلال عملي كأستاذ زائر في جامعة (Queensland) عام 2007؛ باستثناء المجتمع الجامعي كالأساتذة والإداريين الذين يقابلون الطلبة المبعوثين من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
يبدو لي أن هناك بعض المسؤولين ما زالوا يجهلون أهمية القوة الناعمة وأساليب توظيفها في السياسة الدولية، فلا يمكن نحقق النجاح والولوج للعالمية والانتصار في هذه الساحة، دون رسم خارطة طريق مستقبلية للقوة الناعمة العُمانية وتعظيمها بالتزامن مع الخطط التنموية الأخرى التي يتم تنفيذها لكي تصبح عُمان معروفة على نطاق واسع في القارات الخمسة، فقد قام العديد من الدول المجاورة بتشكيل لجان وزارية لإدارة قوتها الناعمة وتسويق تلك القوة غير المحسوسة على نطاق واسع، مما ترتب على ذلك تصدرها المشهد الإعلامي والثقافي والسياحي في قوتها وسمعتها ونجاحها في الداخل والخارج؛ بل وحجزها المركز الأول عربيًا وخليجيًا.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري