د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
في إطار التحولات السريعة التي يشهدها العالم، بدأت الدول في توثيق علاقاتها مع بعضها البعض والارتقاء بهذه العلاقات إلى المستوى الإستراتيجي.. وفي السطور التالية، سنسعى لتسليط الضوء على أهمية الشراكات الإستراتيجية، وكنموذج سنتناول علاقة سلطنة عمان بجمهورية الصين الشعبية؛ في محاولة لاستكشاف كيف يمكن للسلطنة تعزيز وتوثيق العلاقات مع الصين والارتقاء بها إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية.
بداية.. لا بُد من القول إنَّ المقصود بالعلاقة الإستراتيجية بين دولتين أنها درجة متقدمة من التعاون والتكامل في مختلف الأبعاد: الاقتصادية والسياسية والأمنية، والعمل وفق إطار تعاون واضح المعالم ووفق خطة عمل متفق عليها في المديين المتوسط والطويل. كما تشمل الشراكة الإستراتيجية ترتيبات وتفاهمات للاستثمار، وإدارة وتقاسم عوائد مشاريع مشتركة تعود بالنفع على الطرفين أصحاب العلاقة. وهنا وجب التنويه إلى أن الشراكة الإستراتيجية لا تعني توحيد المواقف السياسية والأمنية والاقتصادية؛ فهناك تمايز بين المصالح العليا لكل طرف، وإنما تعني زيادة المساحات المشتركة بين الطرفين. ولا يخفى أنَّ وجود مثل هذه الشراكة بين دولتين يُوفر أرضية مؤسسية لزيادة التعاون والاستجابة للمتغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية لضمان تحقيق مكاسب مشتركة لأطراف الشراكة. ولضمان نجاح هذه الشراكة، من المهم فهم الشريك الإستراتيجي من الداخل من حيث ثقافته وتاريخه وأدوار الحكومة وشركات القطاع الخاص ومواقفه السياسية ومصالحه الاقتصادية وملفاته الأمنية؛ الأمر الذي لن يتأتى دون دراسة دقيقة تنفذها مراكز دراسات متخصصة، وهي مسألة ضرورية للغاية ندعو لها دائمًا.
وعندما نتحدَّث عن مسوغات ومبررات الشراكة الإستراتيجية للسلطنة مع الصين، فإنَّ أهم هذه المسوغات يرجع إلى أن الصين تحتل المرتبة الثانية بين أكبر اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني في العام 2021 ما يقرب من 7.94 تريليون دولار أمريكي، وهي أكبر مُصدِّر للسلع والبضائع المصنعة في العالم، وثاني أكبر مستورد للموارد الأولية، لاسيما النفط والغاز، كما تعد الصين أكبر سوق للتجارة الإلكترونية بمبيعات بلغت واحد تريليون دولار أمريكي في العام ٢٠٢١م، وهي تمتلك أكبر احتياطيات للعملة الصعبة تقدر بثلاثة تريليونات دولار أمريكي، وقد حققت أسرع معدل نمو في الثلاثة عقود المنصرمة بمتوسط نمو سنوي يتخطى 10%. فضلا عن ارتكاز الصين على كتلة سكانية عملاقة؛ إذ يصل سكان الصين إلى 1.4 مليار نسمة.
أمَّا على مستوى التبادل التجاري مع دول الخليج العربي، فقد وصل حجم هذا التبادل إلى أكثر من 200 مليار دولار أمريكي، ارتكزت هذه التبادلات من الجانب الصيني على استيراد النفط من دول الخليج. إذ تعد الصين ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم، وقد أسهمت سلطنة عُمان والسعودية والإمارات والكويت بما يعادل 32.5% من إجمالي واردات الصين من النفط الخام، كما أسهمت دولة قطر بحوالي 20% من إجمالي واردات الصين من الغاز الطبيعي من المسال. أما دول الخليج، فإنها تستورد من الصين البضائع والمنتجات الصينية، لاسيما الآلات والإلكترونيات والملابس.
وفيما يتعلق بالاستثمارات بين الطرفين الخليجي والصيني، فقد بلغت الاستثمار الصينية في الخليج ما يقارب الـ10.2 تريليون دولار أمريكي وهي تتركز إلى جانب سلطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة قطر.
وهكذا نستطيع القول نتيجة لكل ما تقدم أنَّ دول الخليج سعت لبناء شراكة إستراتيجية مع الصين، ففي العام 2014م وقعت دولة قطر شراكة إستراتيجية مع الصين، وقد بلغ حجم التجارة بينهما ٢٦ مليار دولار في عام ٢٠٢٢م. وفي العام ٢٠١٦م، وقعت المملكة العربية السعودية شراكة إستراتيجية مع الصين وبلغ حجم التجارة بينهما 108 مليارات دولار في عام ٢٠٢٢م، ، وفي العام ٢٠١٨م وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة هي الأخرى شراكة إستراتيجية مع الصين، وبلغ حجم التجارة بينهما ٩٩ مليار دولار في العام ٢٠٢٢م، كما أن الكويت وقعت في العام ٢٠١٨م مع الصين شراكة إستراتيجية وبلغ حجم التجارة بينهما ٩٩ مليار دولار في العام ٢٠٢٢م.
أمَّا فيما يتعلق بعلاقات السلطنة مع الصين، فنستطيع القول إنه وبالرغم من العلاقة الضاربة في عمق التاريخ بين الدولتين؛ إذ إنَّ التجار العمانيين كان لهم تواجد في الصين منذ أكثر من 1200 سنة، حيث يوجد في مدينة جوانزو نصب تذكاري للسفينة صحار التي زارت ميناء كانتون قبل أكثر من 1200 سنة ضمن أسطول تجاري ضخم، كذلك فإنَّ أول سفينة صينية وصلت إلى الشواطئ العمانية كانت قبل ٦٠٠ سنة. وتم بناء نصب تذكاري للملاح الصيني "تشنغ خه" في مدينة صلالة الجميلة. كما أقام الجانبان علاقاتهما الدبلوماسية على مستوى السفراء منذ عام 1978، إلا أن العلاقات ما بين الدولتين لا تزال دون مستوى الطموح إذا ما قيست بعلاقات الصين مع باقي دول الخليج العربي.
والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف للسلطنة أن تُعظِّم الاستفادة من هذا الإرث الحضاري والموقع الجغرافي المتميز للوصول في علاقاتها مع الصين إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الفعلية؛ بما يسهم في الاستفادة من التجربة الصينية في تنويع الاقتصاد العماني وزيادة الإنتاج وتنشيط التصنيع المحلي؟
وللإجابة عن السؤال أعلاه، لابد أولا أن نقول إنَّ حجم التبادل التجاري بين الصين وسلطنة عُمان قد بلغ ما يقرب من 40.45 مليار دولار أمريكي في العام ٢٠٢٢م، وأن سلطنة عمان تصدر معظم إنتاجها من النفط الخام إلى الصين منذ سنوات، وتعد سلطنة عُمان رابع أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي. وحقق التعاون الاقتصادي والتجاري فوائد كبيرة للبلدين. ولكن بالرغم من كل ذلك، فإنَّ الاستثمارات الصينية في السلطنة لا تزال ضعيفة ودون مستوى الطموح.
وهناك العديد من المسوغات التي تدعم التقارب الصيني العماني، نذكر منها ما يلي:
أولاً: رؤية "عُمان 2040" تنادي وترتكز على التنويع الاقتصادي وتوسيع القاعدة الإنتاجية، وهو ما نجحت الصين فيه بكفاءة؛ وبالتالي يُمثل درسا يمكن الاستفادة منه في هذا الشأن.
ثانياً: التغيرات الجيوسياسية في العالم، وتراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج؛ مما يفرض على دول الخليج ومنها عمان ضرورة البحث عن شركاء جدد لإيجاد توازنات جديدة في المنطقة.
ثالثا: الموقع الإستراتيجي لسلطنة عمان الذي يمثل همزة وصل للتجارة بين آسيا وأوروبا، ويمكن أن تكون السلطنة معه مركزا لانطلاق التجارة الصينية إلى العالم.
رابعا: تمثل السلطنة المصدر الأهم للطاقة، لاسيما النفط بالنسبة للصين.
خامساً: اعتبارات اقتصادية؛ حيث إنَّ السلطنة تمثل أرضية خصبة لمشاريع البنى الأساسية الكبرى الصينية، ومراكز التصنيع في السلطنة إلى العالم.
وفي محاولة لاستشراف مستقبل الشراكة ما بين عُمان والصين في عالم مضطرب، في إطار محاولة الصين كسر الأحادية القطبية بأسلوب ناعم (تغيير معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط)، واحتياجاتها المتزايدة من الطاقة؛ فإنَّ العلاقات العمانية-الصينية مُرشَّحة لمزيد من التطور والتعاون قد تصل حدَّ الشراكة الإستراتيجية الفعلية والاعتماد المتبادل بين الدولتين.
وفي الختام.. يُمكننا القول إنَّ تحقيق المزيد من التقارب والتعاون والشراكة بين السلطنة والصين، يفرض علينا ضرورة دراسة السوق الصيني بشكل أعمق ومعرفة احتياجاته وما يُمكن تلبيته من قبل السلطنة، كذلك التعامل مع تحدي اللغة، ونذكر هنا ضرورة بدء تدريس اللغة الصينية في عُمان، كما هي الحال مع التجربة الإماراتية والسعودية في هذا الشأن، من أجل تحقيق مزيد من الفهم والتواصل مع الفئات المستهدفة في الجمهورية الصينية، ومن الأهمية وضع ترتيبات لإرسال أعداد مناسبة من الطلبة العمانيين لغرض الدراسة والتدريب في الصين، وكذلك ضرورة تسريع المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، لتحقيق مكاسب مشتركة، خاصة وأن دول المجلس أقرت الدخول في مفاوضات لإقامة منطقة تجارة حرة بين دول المجلس وجمهورية الصين الشعبية منذ ديسمبر عام 2003م، لكنها لم تتقدم بالوتيرة المناسبة. وتمثل القمَّة الأولى التي عُقدت في المملكة العربية السعودية في ديسمبر 2022، محطة مهمة في تطوير العلاقات.
واليوم نقول.. لقد باتت الظروف الجيوسياسية تدعم هذا التقارب، إيماناً بأن خارطة العالم تتغير على المستوى السياسي والاقتصادي عبر إقامة مشاريع اقتصادية ضخمة بين الطرفين وتحمل أبعادًا سياسية وأمنية واقتصادية. وعلاوة على ما تقدَّم، نعتقد أنه من الضروري العمل على الاستفادة من الاستثمارات الصينية في سلطنة عمان، لا سيما ما يتعلق منها بنقل التكنولوجيا والخبرة والمعرفة إلى الشركات العمانية؛ حيث تشير الوقائع إلى تحدٍّ كبير في نقل المعرفة والتكنولوجيا، وإمكانية استفادة الاقتصاد العماني من الاستثمارات الصينية في هذا الشأن.
وثمَّة آفاق واسعة من التعاون بين الصين والسلطنة تتطلب مواءمة التوجهات الإستراتيجية لرؤية "عُمان 2040"، والتي تنادي بمزيد من التعاون والاندماج الدولي، وتمكين القطاع الخاص، لإيجاد قواعد إنتاجية في مختلف القطاعات والتحول النوعي وتعزيز استخدام التكنولوجيا وسبر أغوار قطاعات التعدين والطاقة المتجددة، والتي تستطيع الصين مساعدة السلطنة فيها بكفاءة عالية.
وكما بدأنا، نختم بالقول، إننا في عالم متسارع التغيير، يفرض على السلطنة توظيف مكامن قوتها وعلاقاتها الدولية المتميزة مع دول العالم المختلفة والارتقاء بها لمستوى الشراكة الإستراتيجية لصناعة المستقبل المنشود؛ وبما يمكِّن من تعظيم الاستفادة وتوظيف الموارد الطبيعية والبشرية والموقع الجغرافي والإرث الحضاري والتاريخي، وبما ينعكس على رفع مستوى معيشة المواطن وتوليد فرص الأعمال وزيادة الدخول وتحقيق الاستدامة المالية.