تسارع الأحداث في حرب غزة وتعاظمها بين ألم وأمل

 

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

تتسارع الأحداث وتتعاظم يوما إثر يوم، والعمر يجري بسرعة كبيرة ليس كأي وقت، تخط أقلامنا بعض ما يجري بغزة لكن المشهد يختلف غدا؛ فنعود لنكتب آخر فيختلف بعد ساعات، وهكذا لا نلاحق تواتر هذه الأخبار، هل من طريقة لوقف دائرة الأحداث؟ إن تسارعها يصيب بالغثيان وينبئ بالموت القريب، ليس الموت كواقعة بل كرخص في سبيل الكرامة والعزة، أصبح الموت سهلا سماعهُ، رؤيته، وكذلك تعاطيه.

دولة الاحتلال لا تعبأ بعدد القتلى ولا بالكيفية بسبب عجزها لا بسبب قوّتها، القوة في المواجهة وليس القتل من أجل القتل والدمار، ماذا سيبقى في قلب هذا الجيل؟ ماذا يحاولون فعله بذاكرتهم؟ هل يتوقون لهذا التدمير مرات ومرات؟ إنهم يُحمّلون أجيالهم مهمة أخرى صعبة كما حمّلهم الماضون هذا الواجب السادي غير الإنساني، لا يظنون أن الخوف سوف يتلبس قلوب شبابنا بل هو شأنهم أما المسلمون فحياتهم في كرامتهم ومن ثم شهادتهم من أجلها.

ولأن إسرائيل دولةٌ لا تعبأ بأي أعراف أو مبادئ تجدها تأخذ ببروتوكول هانيبال الذي يجيز لها قتل أسراها لدى الجانب الآخر حتى لا يكونوا وسيلة ضغط عليها، هكذا يتعاملون مع الحياة.

لا تتوقف الوقائع الصحيحة وغير الصحيحة، كما لا تتوقف دولة الاحتلال عن القتل العمد للأبرياء بالصورة التي تراها مناسبة، لذا؛ فأخبار الحرب والدمار تستجدي الوقت في كل مرة، والسرعة التي تحدث بها هذه الأحداث ليست طبيعية، وكأنها مجبولة على التعجيل، فما أن نكاد نستوعب مجزرة تأتي الأخبار بمجزرة أخرى، ثم وعيد بغيرها مستخدمة دولة الاحتلال ذريعة النزوح كطريقة للسلامة أو كسلاح تهديد وكلاهما مر.

فالنزوح هو المطلب الأساسي لتفريغ غزة من سكانها وهذه أمنية قديمة لقاداتها خصوصا رابين وشارون؛ فبعد أمنياتهم التخلص من غزة بالغرق أو أن يبتلعها البحر بقيت صامدة في وجه العدوان، حتى إن شارون صاحب نظرية "الصدمة سبيلا للردع" كان يعتقد أن القتل والتدمير سبيلا لتثبيط المقاومة إلى أن تم إجباره على خطة "فك الارتباط" عام 2005، وهي في صالح المقاومة، ثم بقيت لعنة غزة تطاردهم[i].

ولأن غزة تتوق إلى الخلاص أيضا من دولة الاحتلال، تتسارع الوقائع بحيثيات مختلفة وحقائق جديدة لا يمكن حصرها وتناولها معا؛ فكل حدث يحتاج إلى مجلدات من الإنسانية والشفقة ومشاعر العطف والتودد، ولا نغالي لو قلنا أن غزة تحترق بكل إنجازاتها ودُورها ومؤسساتها المدنية.

تتسارع أحداث القتل والتدمير بتفتيت سبل العيش، تتسارع أحداث الجوع والعطش بقطع الماء والغذاء، أحداث الظلمة بقطع الكهرباء، تتسارع الاجتماعات والنداءات بوقف عنف دولة الاحتلال، تتسارع النتائج المؤلمة والمرضية من أرض المعركة على حد سواء، أحداث تتوالى ومن الصعب إيقافها، حتى إن منظر شحنات الأغذية والكساء وغيرها أصبح توقا يصعب استمراره مع تسارع الإجرام الصهيوني.

لا نكاد نبصر حدثا حتى نفاجأ بغيره وهكذا لا تمر دقيقة إلا بخبر جديد يغري الكاتب لتناوله وتحليله، الأفكار تتشابك والرؤى تختلط وتتداخل ثم تتشوه؛ فالخبر والخبر المضاد يلقي قتامة على وضوح وصدق الخبر السابق، وهكذا هي حرب شاملة وعامة قتل الأطفال فيها هو الأوضح والأكثر شناعة وظلما وعدوانا، هو الموضوع الذي يشاهد مرأى العين ولا يخطئهُ النظر.

تتسارع الأحداث وكأن الغبن يلتف حولنا لا نستطيع ردعها وكأنها هلامية لا يمكن إدراكها، أحداث كان يجب أن تظل في الذاكرة لكننا نمهر أدمغتنا دائما بالنسيان، نختم عليها قبل أوان تصديرها وحفظها في ملفات الذاكرة الحية، قرأنا التاريخ المخزي للاحتلال منذ 1948، وعشنا تاريخا مظلما، عشناه في طفولتنا نسمع بعض الشذرات الطائرة من هنا وهناك، ثم في المدرسة تربينا على القضية الفلسطينية (فلسطين داري ودرب انتصاري، وسأحمل روحي على راحتي، وإذا الشعب يوما أراد الحياة، وأخي جاوز الظالمون المدى) وغيرها مما تربينا عليه ودخل في أذهاننا، ولكن -كما قلت- تناسينا كل ذلك مع الحياة وتسارع أحداث النكبات، وكأنها أخبار ليست بالجديدة، وكأنها أخبار عادية قامت تأتينا بين فترة وأخرى، وكأنها تحدث بأثر رجعي.

لكنها سريعة تأتي وتذهب ثم يأتي غيرها في الصباح الباكر، بل لا نكاد نصبح حتى نفزع على مجازر ارتكبت بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد، نقول متى سيأتي الفرج؟ ثم نسمع عن تفجير دبابات المحتل وقتل بعض جنودهم فنفرح قليلا فرحة هشة تقضمها صور الأطفال القتلى والمتدلية من بنايات غزة التي تعانق الأرض، ثم لا نكاد نثبت أفكارنا نحو تبعات النصر، وقيم المنتصر حتى نشهد انتقاما يغرز أنيابه وآلته المدمرة بإبادة المستشفيات والمساجد والمنازل والمدارس والبُنى الأساسية في غزة لتضمحل فرص الحياة خصوصا وأن المؤن اللازمة للعيش تصل متعبة من كثرة انتظارها في الطرقات، تصل هزيلة بعد عناء المساومة والثقة منزوعة الدسم.

تجثم غارات دولة الاحتلال بسرعة وعدم توقف على مدن غزة وعلى أحيائها الهادئة والسكان المسالمون، في تحد صارخ لرغبة دول العالم التهدئة، جعلت السكان يبحثون عن أقاربهم بين ركام المباني وفرق الإنقاذ الأهلية في منظر متكرر بين يوم وآخر، ثم تنتقل تلك الغارات بالسرعة نفسها إلى أحياء غيرها دون رابط بين هذه الغارة وتلك وبلا هدف سوى القتل والتدمير ولتصعيب العيش وإعطاب أسس الحياة.

هذه السرعة في التدمير وتوسعته إنما تنذر بكارثة عصيبة، ويتبئ عن عدو مغرور متجهم ينتزع متعته بالبارود، وتنتقص من شأن نفسه من خلال إلحاق الأذى بغيره، حيث يسوق أحداث قتل الأبرياء واغتيال الأبطال كانتصار سريع واعتزاز كبير بالنفس في لحظتها ثم يباشر بغيرها وهكذا لا تنفك عنه عقدته طالما امتلك السلاح وتبجح به، ولطالما المجد للأقوى والهوان للضعيف حينما تكبر الدائرة، فنحارب -نحن البعيدين- بأضعف الإيمان.

ضرورة التركيز مع الوقع السريع للأحداث حتى يمكن اختزال المشهد وهذا لا يتأتى كثيرا لأن الأحداث متفرقة بأماكنها ومتشابهه بوقعها، تتخللها نتائج دائمة كالفقد ومؤقتة كالبيت والماء والغذاء، وهناك نتائج تخرج من بين تلك الأحداث تؤثر في صلب الحياة وديمومتها، وخلف تسارع الأحداث نتائج كارثية لا تحاكي المدة التي وقعت بها لأنها كثيرة ومؤلمة بل قاصمة ومرشحة للزيادة في أي وقت؛ فدولة الاحتلال لا تمعن كثيرا في زهق الأرواح البريئة وتعتبر حربها عليهم من ضرورات الحرب على المقاومة.

لذا؛ على المقاومة إدارة وقتهم لهذا التسارع المخيف للأحداث وتعاظمها بين ألم وأمل، والاستعداد للتكيف مع أسوأها لأن تسارع العدو واضطرابه ناتج عن توتر شديد أصاب الكيان، يستعجل النتائج الإيجابية التي تعزز من نفسيات جيشه فأصبح لا يفرق في حربه بين ردع ولوثة مرضية.

تعليق عبر الفيس بوك