ميزان الاقتصاد العُماني (2- 2)

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تعزيز الصادرات أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه السلطنة

49 % زيادة في الصادرات السلعية خلال 3 سنوات إلى 25.4 مليار ريال

نقترح الحد من تصدير النفط والغاز خامًا واستغلاله في صناعات للشق السفلي

عُمان في المركز 73 عالميًا بمؤشر "التعقيد الاقتصادي"

نأمل مضاعفة عمليات إعادة التصدير بما يتواءم مع الإمكانات اللوجستية في عُمان

لا بُد من خطة واضحة لتوظيف الشباب العُماني في القطاعات الإنتاجية بدول الخليج

نعوِّل على "الغرفة" لدعم انطلاق الشركات المحلية إلى العالمية

حصاد السلطنة من الاستثمار الأجنبي لا يزال متواضعًا رغم الجهود المبذولة

 

نستكمل اليوم الحديث عن الكفة الثانية لميزان الاقتصاد العُماني بشيء من التفصيل والتحليل، من خلال التركيز على بعض المؤشرات المعنية بدخول الأموال والعملة الصعبة إلى الاقتصاد العُماني، مقابل الطلب العالمي على السلع والخدمات المُنتَجَة في سلطنة عُمان، والتي نستعرضها في هذا المقال، وندعو إلى تعظيمها، كما تعكسها البيانات المتوفرة في تقرير البنك المركزي لعام 2022.

البداية من المصدر الأهم المُتمثِّل في الصادرات بمُختلف أنواعها؛ حيث تُعد قضية تعزيز الصادرات أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه السلطنة؛ كونها مُكمِّلًا للعملية الإنتاجية، فبدون التصدير يظل الإنتاج المحلي حكرًا على السوق المحلية الصغيرة نسبيًا، ومن ثم عدم تمكُّنه من تحقيق الزيادة المرجوة في الدخل القومي.

الإحصاءات تشير إلى أن سلطنة عُمان صدَّرت سلعًا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بقيمة 12.9، و17، و25.4 مليار ريال عُماني على التوالي؛ بارتفاع بنسبة 49% خلال عام 2022. وعند استعراض تفاصيل هذه الصادرات لعام 2022، نجد أنها تنقسم إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى: مرتبطة بالنفط والغاز، وهذه حققت زيادة مطردة؛ حيث بلغت صادرات النفط الخام 11.6 مليار ريال، والمُصفَّى 1.8 مليار ريال، والغاز 3.1 مليار ريال عُماني. وترجع هذه الزيادة بشكل الرئيسي إلى ارتفاع أسعار النفط التي بلغت في المتوسط 95.4 دولار للبرميل، لعام 2022، بالمقارنة مع 64.3 دولار للبرميل لعام 2021، بزيادة قدرها48.4 %، إضافة إلى زيادة كمية الإنتاج.

وهنا نطرح عددًا من التساؤلات: لماذا لا يُضاعف الإنتاج من مليون إلى 3 ملايين برميل يوميًا، مع مُضاعَفة كميات الغاز المُنتَجَة، خاصة وأننا نتشارك جغرافيًا مع دول الخليج وعلى حدود طويلة مع المملكة العربية السعودية التي تنتج حوالي 12 مليون برميل، ودولة الإمارات التي تنتج 3 ملايين برميل وتستهدف إنتاج 5 ملايين برميل في المرحلة المقبل.. وهل قمنا فعلًا باستنفاد جميع البدائل مع شركائنا الاستراتيجيين وتوظيف المُكوِّن التكنولوجي والخبرات الوطنية والمساحات الشاسعة برًا وبحرًا. ومن جانب آخر، لماذا لا نحِد من تصدير النفط والغاز كمادة خام ونستغله في بناء صناعات للشق السفلي تزيد من قيمتها أكثر من 16 ضعفًا حسب بعض الدراسات لإنشاء تجمعات صناعية متكاملة لمنتجات الألمنيوم والبلاستيك وغيرها، خاصة ونحن في طور تحقيق رؤية طموحة تسعى لزيادة القاعدة الإنتاجية وتعزيز القيمة المحلية المضافة والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والتي حتمًا ستخلق المزيد من فرص العمل وفرص الاستثمار وتكبر من حجم الاقتصاد وتحقق الاستدامة المالية والاقتصادية والاجتماعية.

أما المجموعة الثانية؛ فهي الصادرات غير النفطية العُمانية المنشأ؛ حيث بلغت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بقيمة 4.1، و5.8، و7.5مليار ريال عُماني؛ بارتفاع بنسبة 29% خلال عام 2022. وهذه زيادة مُهمة، لكن مع ذلك لا تتجاوز حصة الصادرات غير النفطية 30% من إجمالي الصادرات، علمًا بأن معظمها مرتبطة بقطاع البتروكيماويات المرتبط هو الآخر بقطاع النفط.

وهنا نشير إلى أن ترتيب سلطنة عُمان قد سجل تراجعًا في مؤشر "التعقيد الاقتصادي" بواقع 4 مراتب؛ ليصل إلى 73 حسب تقرير عام 2022، وذلك من بين 134 دولة، كما سجَّل ترتيبنا تراجعًا في مؤشر الابتكار العالمي؛ حيث جاءت في المرتبة 79 من بين 132 دولة في العام 2022م.

وحريٌّ بنا قراءة مُؤشر التعقيد الاقتصادي الذي طوَّره باحثون في جامعة هارفارد؛ وهو مقياس شامل لخصائص الإنتاج في بلد مُعين يُوضِّح حجم المعرفة المتراكمة في ذلك البلد والتي تُترجِم في قدرته على مواصلة الابتكار والإنتاج والتصنيع، وتُقاس هذه المعرفة من خلال تقييم مدى تنوّع وتطوّر سلة المنتجات الصناعيّة للدولة والتي تمكنها من المنافسة وتقود إلى ازدهارها. لذلك، هناك علاقة طردية بين كمية المعرفة الإنتاجية الموجودة في المجتمع وعدد المنتجات التي يستطيع هذا المجتمع إنتاجها. وهناك علاقة إيجابية بين درجة التعقيد الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وهناك عاملان يؤثران على مؤشر التعقيد الاقتصادي للدولة؛ يكمن الأول في التنوع، والذي يُدلِّل على عدد المنتجات التي يمكن أن ننتجها في عُمان. فيما يكمُن الثاني في الوفرة التي تدل على مدى انتشار منتج معين بين دول العالم.

ننتقل الآن إلى المكون الثالث من الصادرات، وهو إعادة التصدير؛ والذي يُدلِّل على نشاط ومكانة الموانئ العُمانية والإمكانات اللوجستية والبنية الأساسية للنقل ووضع السلطنة كلاعب مهم في سلاسل التجارة العالمية، وهناك الكثير من الآمال معقودة عليه في تحسين قدرات الاقتصاد واستغلال الموقع الجغرافي المتميز للسلطنة في القيام بدور حيوي في مجال توزيع السلع في المنطقة وخارجها. وتُظهر الأرقام أن قيمة إعادة التصدير حققت نتائج متواضعة؛ حيث تراجعت من حوالي 1.8 مليار ريال عُماني في عام 2020م إلى حوالي 1.3 مليار ريال عُماني في كل من عامي 2021 و2022. ولو قارنَّا هذه الأرقام بتلك المتوفرة في عام 2015، نجد أنَّ قيمة السلع المُعاد تصديرها حققت نموًا كبيرًا في تلك السنة؛ حيث بلغت 2.6 مليار ريال عُماني، وهذا يعكس التراجع الكبير في هذا القطاع، وأنه لم يصل للمستوى المطلوب في مساهمته في تدعيم الاستراتيجية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل، خاصةً في ضوء وجود موانئ الحاويات الضخمة في كل من صلالة وصحار والسويق، إضافة إلى منطقة الدقم الاقتصادية الخاصة والتي جميعها تتمتع بمواقع فريدة ولا تزال تحوي قدرات متاحة غير مستغلة؛ بما يمكنها بكل جدارة من المنافسة إقليميًا وهو ما يستدعي عمل الحكومة المزيد لتعزيز تنافسية الموانئ العُمانية.

وعلى صعيد حساب الخدمات، تشير الإحصاءات في ميزان المدفوعات إلى ان متحصلات السلطنة من الخدمات التي قدمتها للعالم خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بلغت 0.86، و0.86، و1.4 مليار ريال عُماني على التوالي. ومن أهم بنود المتحصلات لعام 2022، متحصلات بند السفر (غالبيته مدفوعات غير المقيمين مقابل خدمات السياحة) والتي لم تتجاوز 604 ملايين ريال عُماني على الرغم من الإمكانيات السياحية الكبيرة التي تتمتع بها السلطنة وهو الأمر الذي يستدعي تطبيق الاستراتيجيات اللازمة.

أما في المرتبة الثانية، فتأتي متحصلات بند خدمات النقل، والتي بلغت ما يقارب 454 مليون ريال عُماني، وهو رقم متواضع يجب أن يحقق هو الآخر قفزات نوعية، في ظل ما استثمرت السلطنة من مبالغ ضخمة في إنشاء الطرق والموانئ والمطارات. ومن ثم تأتي خدمات الاتصالات والخدمات المتصلة بها بقيمة 100 مليون ريال عُماني، وخدمات التأمين بـ25 مليون ريال عُماني، والخدمات المالية بـ7 ملايين ريال عُماني، وخدمات أخرى بقيمة 193 مليون ريال عُماني. ولا تزال هذه الحصيلة لاقتصاد الخدمات متواضعة، إذا ما قورنت بالامكانيات المتاحة.

هناك قناة أخرى قد تكون مهمة لدخول الأموال إلى السلطنة وترتبط بإيجاد علاج للباحثين عن عمل؛ وهي تحويلات العُمانيين العاملين في الخارج إلى السلطنة؛ فهي تكاد لا تُذكر، وهو ما قد يُعزى إلى ضآلة حجمها، وبالتالي عدم تغطيتها إحصائيًا. ولا شك أن هناك فرص عمل كبيرة في دول الخليج في قطاعات الصحة والبنوك والتعليم والنفط والغاز، وهناك أهمية لتجسير الهوة بين تلك الوظائف والأعداد الكبيرة من الشباب العُماني الباحث عن عمل في مُختلف القطاعات الإنتاجية في دول الخليج، وايجاد قنوات للتوظيف، وهذا لا يعني الانتقاص من شبابنا فهم يعملون في وظائف جيدة. وهناك آمال كبيرة معقودة على دور سفاراتنا لدراسة هذه الاقتصادات والفرص المتاحة فيها. كما نشير إلى أنَّه على الحكومة في إطار سعيها لبناء قدرات شبابنا، أن تتبنى برامج تستهدف إرسال عدد من الفنيين العُمانيين سنويًا إلى عدد من المصانع خارج السلطنة؛ لتحقيق جملة من الأهداف؛ أهمها: تعلُّم أساليب العمل وبيئة الأعمال الدولية؛ سواء من خلال استثمارات وشركاء جهاز الاستثمار العُماني أو من خلال فروع المصانع الموجودة في السلطنة.

ننتقل الآن إلى مصدر آخر لدخول الأموال إلى الاقتصاد العُماني، ويتمثل في أرباح شركاتنا العُمانية العاملة في الخارج. وهذه الأرباح متواضعة للغاية وتستوجب دورًا مُهمًا من غرفة تجارة وصناعة عُمان لمساعدة الشركات المحلية على الانطلاق نحو العالمية وفتح آفاق أرحب للنمو، وليس ذلك بسبب صغر حجم السوق المحلي فقط، وإنما لوجود فرص واعدة في الأسواق العالمية، خاصة ونحن جزء من المنظومة الخليجية التي تعج بالنشاط والديناميكية. لكن الأمر يستوجب إعداد استراتيجيات توسُّع نحو العالمية، وتعظيم دور الغرفة والاستفادة من زيارة وفودها للدول المختلفة والالتقاء بسفراء مختلف الدول؛ فالغرفة هي بيت الشركات المحلية والمعنية بتهيئة الظروف لتقدمها، وعليها أن تسعى لصناعة شركات محلية قوية من خلال تشجيع عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات، لإيجاد كيانات كبيرة قادرة على امتصاص الصدمات والخروج للعالمية، ومن ثم تحويل أرباحها للاقتصاد العُماني.

هناك قناة مفصلية لدخول الأموال تتسابق عليها الدول وتعمل على تطويع تشريعاتها لاجتذابها، وهي الاستثمارات الأجنبية، وخاصة الاستثمار الأجنبي المباشر المعني ببناء قواعد إنتاجية بخبرات ورؤوس أموال أجنبية، والإحصاءات تشير إلى أنه بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة والتحسن النسبي في هذا المجال لكن حصاد السلطنة من الاستثمار الأجنبي لا يزال متواضعًا- كمًا ونوعًا- بالنظر إلى الفرص والموارد المتاحة، ولا تزال متركزة بأكثر من 65% في قطاع النفط والغاز، وجغرافيًا يأتي ما يقرب من 60% من الاستثمار الأجنبي المباشر في عُمان من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. هذا الأمر يستدعي مزيدًا من الحوافز الذكية لترويج الاستثمار في ظل المنافسة العالمية والإقليمية المحتدمة، ولتسويق السلطنة كوجه مثلى للاستثمار ووضعها في شاشات المستثمرين العالميين، ولا مناص من وضع الاستراتيجية الوطنية للاستثمار وغيرها من الاستراتيجيات موضعَ التنفيذ لخلق الانسجام والتنسيق المطلوب في إدارة ميزان الاقتصاد العُماني المتداخل.

 

قبل الختام.. نذكُر أن تحقيق معدلات مرضية للتنمية الاقتصادية في السلطنة كغيرها من الدول يتطلب وجود تنسيقٍ تامٍ ومتبادلٍ بين قطاع التجارة الخارجية والقطاعات الإنتاجية المختلفة؛ وذلك من خلال وضع الواردات في خدمة الصادرات والصادرات في خدمة التنمية الاقتصادية. ولا مناص من ضرورة تفعيل الاتفاقيات الدولية وأدوار السفارات لتعزيز المكانة الاقتصادية ودعم تنافسية المنتجات العُمانية، وكذلك زيادة حصاد السلطنة من جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وهناك ضرورة لمزيد من البحث والابتكار لدراسة هيكل الواردات وهيكل الصادرات العُمانية للوصول إلى عدد من السلع التي يمكن التركيز عليها من خلال الفترة المقبلة؛ لتكون القاعدة الإنتاجية للاقتصاد العُماني والتي يجب أن تنصب جهود التنمية عليها في المستقبل، بحيث يتم التركيز على التصنيع كخيار استراتيجي للسلطنة. وكل ذلك مرهون بالدرجة الأولى بتنشيط وتفعيل دور شركات القطاع الخاص وتقديم الممكنات الضرورية. ويُظهر لنا التحليل ضرورة تحسين الإحصاءات المحلية المُرتبطة بميزان الاقتصاد العُماني واحصاءات المرتبطة بالقطاع الخاص، حيث ان المعلومات والبيانات الدقيقة التي تصدر بانتظام هي نقطة البداية للانطلاقة الصحيحة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار

وفي الختام.. وبالتزامن مع إعلان نتائج انتخابات مجلس الشورى، نبارك لجميع الإخوة المُنتَخَبين مُمثلي المجتمع، ونُذكِّر بدورهم المُهم والمفصلي في الجانب التشريعي والتنظيمي، الذي يعد مكونًا مُهمًا مع أدوار المؤسسات والأجهزة الحكومية، وندعو الأعضاء الجُدد لقراءة مضمون ميزان الاقتصاد العُماني بأبعاده المختلفة. ونؤكد هنا أن تحليل ميزان الاقتصاد العُماني يُوضِّح بشكل جليّ حجم الفرص الواعدة والمساحات المتاحة لتحقيق تحسينات مُهمة في كفتي الميزان، من خلال إدارة قنوات دخول وخروج الأموال في الدورة الاقتصادية المحلية، والعمل على زيادة درجة استقرارها لتعظيم مُضاعِف ومتانة الاقتصاد، وإيجاد صناعات محلية قادرة على خلق فرص عمل للعُمانيين، وتعظيم الاستفادة من المكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم لجذب استثمارات. إلى جانب ضرورة إعادة هندسة الاقتصاد العُماني بالتركيز على محورين يجب العمل عليهما، الأول: يتمثل في تمكين تحول عميق في الأدوار بين الحكومة وشركات القطاع الخاص، بحيث تنتقل الحكومة من كونها المحرك والمشغل والمستثمر الرئيسي والمولد لفرص العمل، إلى التركيز على تهيئة بيئة الاعمال والأُطر الضامنة لحُسن استغلال الجاهزية وتوافر البنية الأساسية والموارد البشرية والطبيعية، والاعتراف بوجود القطاع الخاص ودوره المفصلي في تشغيل محركات الاقتصاد نحو المزيد من الاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير وتقديم الخدمات وهي أدواره الاصيلة. أما المحور الثاني فيتمثل في معالجة الاختلالات الواضحة في عناصر الإنتاج، وخاصة الحصول على راس المال والتمويل بتكلفةٍ واشتراطاتٍ مناسبة، وكذلك توافر العمالة بالمهارات والخبرات المناسبة، وضرورة تجنب ضبابية المواقف وإيجاد السياسات والأُطر المُحفِّزة على الاستثمار في موارد الأرض المختلفة، واتخاذ الإجراءات الضرورية لتخفيض تكاليف التشغيل وتحفيز الطلب والعرض المحلي.