هل من يقرأ؟ هل من يسمع؟

 

د. صالح الفهدي

تردُني كثيرًا هذه الأسئلة بعد أن أنشر مقالًا كتبتهُ: هل من يقرأ؟ هل من يسمع؟ وهي على غرار ما تقوله العرب: "لمن تقرأ زبورك يا داود" و "أنت تحدو بلا بصير" و"مطرب الحي لا يطرب" و"لا كرامة لنبيٍّ في قومه"، وغيرها من الأمثال.

أما دافعُ الأسئلة فهي أن لا شيء يحرِّكُ ساكنًا، ولا متغيِّر تغيِّره الكتابة، وجوابي الدائم على ذلك: بأنني وغيري لو آمنّا واقتنعنا بهذه الأسئلةِ والأمثلة لتوقّفنا منذُ أمدٍ بعيد، ولتركنا الحال كما هو دون أن نسكب له قطرة حبر واحدة!

الكتابةُ في حدِّ ذاتها معاناة لا يدركها إلّا من يشتغلُ بها اشتغال المخلص لها، المُدركِ أثرها، وهي عندي بعض الأحيان كالمشي في حقلِ ألغامٍ يتوخّى الكاتبُ فيه بحذرٍ شديد، لكننا قبلنا بهذه المعاناة لأنها قدرٌ وأمانةٌ!.

ثم ما المقابلُ في حالِ توقّف الكاتبُ عن الكتابةِ إن اقتنع بأنّه لا أحد يقرأ، ولا أحد يسمع؟ سيودِّعُ الكتابة جانبًا، وستأخذهُ الحياةُ في مناحٍ أخرى، حينها لا تكون الصحف إلا مجرّد أوراقٍ مبتسرةٍ من تقارير وأنباء، خاليةٍ من المقالات والآراء، وهي إن فقدت ذلك فإنّها فقدت لبّها وجوهرها فلا يعود لها تلك القيمة الجوهرية التي ترفعها قدرًا، وتعليها مقامًا.

نعلمُ يقينًا أن الكتابة مُجهدةً، وأنها لا تأتي إلا بالمشاق، لكن هذا قدرُ الكاتبِ الذي يريدُ الإِصلاح لمجتمعه، ونتائجُ الإصلاح لا تأتي بين عشيّةٍ وضحاها، فصناعة الوعي تحتاجُ إلى مجاهدةٍ واصطبارٍ عبر زمنٍ طويل، وتغيير العقول يحتاج إلى الجهد المبذول الذي لا يؤتي ثماره إلا بعد مدى بعيد.

ثم أننا نعلمُ أنّ هناك من يترصّدُ الأخطاء ممن يعنيهم الأمر و"من يتصيّد يجد" أما من يشيدُ فقليل، يجرِّدُ البعض الكتابة من فعلها المصلح، ليجعلونها سلاحًا هدّامًا، ولكن لا يكون الرد، وينسون فضل الكاتب على مجتمعه ويقتنصون لها الزلّات التي يمكنهم تأويلها على ما تمليهم نواياهم، وليس لهم إلا كما يقول المتنبي: 

كم تطلُبون لنا عيبًا فيُعجِزُكُم // ويكرهُ اللهُ ما تأتون والكرمُ

ما أبعد العيب والنُقصان من شرفي // أنا الثُريّا وذانِ الشّيبُ والهرمُ

أعظمُ تعزيةٍ للكاتب المُصلِح، المُحِب لوطنه هو أن غايته من الكتابة أن يصنع للحياةِ معنى آخر، ويصوغ عالمًا مختلفًا، وفي هذا يبقى آثره حتى لو لم يذكرهُ أحدًا.

نعم قد يبدو الأمر بأن لا أحد يقرأ أو يستمتع من أصحاب القرار الذي قد تعنيهم بعض القضايا التي نطرحها في كتاباتنا، لكن لا شكّ أن الكلمة الطيبة -كما أؤمنُ- قد تكفّل بها الله وجاء ذلك في محكم التنزيل الكريم في سورة إِبراهيم: "ألمْ تر كيْف ضرب اللّهُ مثلًا كلِمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفرْعُها فِي السّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلها كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ ربِّها ويضْرِبُ اللّهُ الْأمْثال لِلنّاسِ لعلّهُمْ يتذكّرُون (25) ومثلُ كلِمةٍ خبِيثةٍ كشجرةٍ خبِيثةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فوْقِ الْأرْضِ ما لها مِنْ قرارٍ (26)"؛ فالكاتبُ هو كالفلاح السائر في طريق يبذرُ جوانبها دون أن يلتفت خلفه، فإذا بهذه البذور التي تقعُ في أرض صالحة الزرع تنبتُ وتجدُ من يسقيها ومن يرعاها، ثم تثمر بعد حين، وقد رأينا آثار الكتابةِ (البذور) في أجيال مختلفة.

صحيحٌ أن الكاتب لا يحظى بما يجب أن يحظى به من القدرِ الذي قد يحظى به سفيهٌ مشهور، أو تافهٌ مغرور، أو جاهل مسعور، وبعضُ ذلك القدرِ للأسف يأتي ممن يفترضُ أن يوجِّهوا اهتمامهم لقدوات المجتمع، والمصلحين فيه لا الذين يسفِّهون أخلاقه، ويضيِّعون أعرافه! لكن ما يأتي من تقدير المجتمع للكتابةِ الرصينة التي تلامسه هو أعظم حظوةً، وأكبرُ أمارةً على التقدير، وفوق ذلك الثوابُ من الله العليِّ القدير.

مجتمعاتنا بحاجة إلى الكلمة المُصلحة، التي تحفظ لها كيانها، وتعيد إليها توازنها، وترسمُ لها توجهاتها، وتصونُ لها كرامتها وحريتها وحقوقها. هذه الكلمة هي التي يجب أن تستمر حتى لو لم تنصت لها الآذان التي يفترضُ أن تنصت لها، فهي لا تلبثُ حتى تخطّ أثرًا، وتصنعُ هالةً في مستقبلِ الأيام.

استمروا أيها الكتّاب، واكتبوا ليل نهار، فنحن لن ننهض بالسفاهةِ والتفاهة، وإنما بالإِصلاحِ الدائم، والوعي المستمر؛ فالكتابة هي السلاح الأقوى للتغيير وإن احتاج أمرُ التغيير إلى وقتٍ مديد، وجهدٍ جهيد.