ناصر أبوعون
في مطلع شمس العقد الرابع من القرن العشرين، كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تُلملم كبرياءها، وتأذن بالرحيل وينضوي شعاعها خلف جدران المستعمرات التي انتفض أحرارها، ويتقلص قميص استبدادها الأبيض الذي أجلس أوصياءه ووكلاءه ومصاصي مقدرات الشعوب ولصوص كنوزها على صدر حضارات خبا ضوؤها وانطفأ سراجها تحت أقدار سُنَّة الاستبدال وفلسفة تداول الأيام بين الناس التي أقرّها خالق الكون في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة.
وفي تلك الأيام التي خلت، كان السلطان السيد سعيد بن تيمور يُجابه صراعات تتنازع مُلكَ أجدادِه، وتُسيم شعبه هوان الإفقار المُتعمّد لإخراجهم من وطنهم بحثًا عن أرزاقهم، وتتنازع عرشه "الممّلك بالحسام وبالندى" بين "الإمامة" في الداخل، ومستعمِرٍ بغيض يفرض وصايته ويلوح بـ"شركة الهند الشرقية"؛ تلك العصا الغليظة التي رفعها في وجه الأحرار في آسيا وحواضر الخليج العربيّ، واستخدمها في فرض سياسات بريطانيا الإمبريالية قسرًا على الشعوب المطلة على المحيط الهنديّ ومنافذه البحرية، وتحوّلت في أيدي تُجَّار لندن الجشعين إلى إعصار هادر يجرف في وجهه كل الحكّام والسلاطين الوطنيين الشرفاء الذي تصدوا لعجرفته، ولم تنكسر أنوف عزتهم تحت سطوة جبروته.
بشارة قابوس
في هذه الحقبة الاستثنائية من مسيرة عُمان داخل حركة التاريخ الإنسانيّ وتحديدا يوم الثامن عشر من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وأربعين جاء إلى الدنيا وريثُ مُلك أُسْرة البوسعيديين ومُجدد أمجادها، وخليفة السلطان سعيد بن تيمور على عرشه؛ قَدَرًا مقدورًا وعلامة فارقة في تاريخ الخليج العربيّ، ليقود حركة التغيير وتبديد جاهلية القرن العشرين بسيف الحرية والعدل والمُساواة، ويدير دَفّة سفينة عُمان إلى المسار الصحيح، ويُبحر بها صوب عصر الحداثة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر القاضي عيسى الطائي: [(فبيومِ مولدِه عُمانٌ أشْرَقَتْ // وحَنَادِسُ الظَّلْمَاءِ صِرْنَ شُمُوسَا)].
في هذا اليوم الفارق من تاريخ سلطنة عُمان، أشار الشيخ العلّامة إبراهيم بن سعيد العَبريّ المُفتي العام على السلطان سعيد بن تيمور بتسمية المولود الجديد (أحمد) إحياءً لذكرى المؤسس الأول للدولة البوسعيدية أحمد بن سعيد البوسعيدي (1744-1783) والمُلقّب بـ"المتوكّل على الله"، إلّا أنَّ الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط ومستشار السلطان المُقرّب والمُؤتمن، كان له رأيٌّ آخر، أوحت به إليه فراسة العابد النَّاسك التي لازمته منذ نعومة أظفاره حتى قضى نحبه؛ فقد ارتأى أنّ إطلاق اسم (أحمد) على نجل السلطان قد يكون فألًا غير حسنٍ، وإيذانًا بتقويض أركان دولته (إذا ما كان أحمد هو المفتتح والمبتدأ، فربما يكون أحمد هو الختام والمنتهى)؛ فأسدى إليه النُّصْح باختيار اسم لا نظير له في عصره وزمانه ليكون عَلَمًا يعلو به ذِكرُه، وبشارةً يسمو بها شأنه، وأصالةً تعظُم بها هِمّته. فانتهى الرأي بالسّيد سعيد إلى اختيار اسم "قابوس" المُشتق من الفعل "قبس" عَلَمًا على وريث عرشه، ورافعًا راية أجداده، وقادحًا شرارة الحضارة وباعثًا للأمة العُمانية، بعد أنِ استنامها المستعمرون وأخمد جذوة هِمتها الساسة المتصارعون. وقد أشار شاعرنا الطائيّ إلى هذا المعنى قائلًا: [(هو نجلُ أقيالٍ وشِبْلُ قَسَاورٍ // اللهُ يحفظُه وذاكَ الخِيَسَا)].
قابوس المعنى والدلالة
وفي تلك الأيام كانت أحوال عُمان أشبه بحال الكليم موسى- عليه السلام- في رحلة عودته إلى مصر ومعه زوجه ابنة النبيّ شعيب- عليهما السلام-، قافلًا إلى موطن ولادته وموطئ رسالته، ليقود حركة التغيير والتحرير ويهدم حائط الجمود والسكونية التي أصابت بني إسرائيل وغشيتهم أمدًا طويلًا تحت سطوة فرعون ونير استبداده، فلمّا ضلَّ الطريق ذات ليلة شاتية قاسية البرد "إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 9-10]. ومن ثَمَّ كان اشتقاق الاسم (قابوس) من (القبس) بشارةً بانفراجة قريبة على شعب عُمان والانتقال بهم من الأعصر المظلمة إلى عصر التنوير، وإيذانًا ببزوغٍ جديد لشمس الحضارة العُمانية التي غابت طويلًا خلف جدران الصمت التي ضربها المستعمرون ووكلاؤهم على خارطة الشرق الآسيويّ والعربيّ لاستباحة ثرواته، واستغلال مقدراته. وفي هذا المعنى يقول الشيخ القاضي عيسى الطائي: [(ولقد شفى الأحشاءَ من بُرَحَائها // نبأٌ بمولودٍ دُعِيَ قابوسَا)].
ثُمّ إنَّ بشارة هذا الاسم الذي أطلقه السلطان سعيد بن تيمور على وريث عرشه حازت الشرف والسؤدد من طرفين، فضلًا عن عراقة أصله "اليعربيّ". أمّا الطرف الأول؛ فكان باشتقاقه من المعجم القرآنيّ؛ في قوله جلّ في علاه: "لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ" للتأكيد على عروبته لُغةً واصطلاحًا. وأما الطرف الآخر فكان باقتباس من اسم ملكٍ مسلم ذاع صيته وتمثُّلا بالملك "قابوس بن وشمكير أبي طاهر بن زيار بن وردان الديلمي الجبلي هو رابع ملوك أسرة (آل زيار)" الذي اعتلى سُدّة الحكم على "طبرستان وجرجان" عام 367 هـ" ولقّبه خليفة بغداد بـ"شمس المعالي". وقد أَصَّل شاعرنا القاضي عيسى الطائي هذه الدلالة النَّسْبيّة للسلطان قابوس- طيّب الله ثراه- في قوله: [(فرعٌ تحدر من ذؤابة يعربٍ // فيه نؤمّل كل جرحٍ يُوسى)].
فاسلم أبا قابوس
فلما دارت على الألسنة أخبار مولد وريث العرش قابوس بن سعيد في صلالة، عجّت المجالس بذكره، وطيّر الأعيان من كل الولايات بريدهم إلى مسقط للتهنئة بمقدمه، وارتقى الخطباء المنابر، ودعوا لله وحمدوه على عظيم فضله، وصدح الشعراء فأشادوا بعريق نسبه وأصله، وتباروا في عقد المساجلات وارتجال القصائد يتسابقون في مدح سلالته والاستبشار بوفادته. ودُعيَ شاعرنا الشيخ عيسى بن صالح الطائي قاضي قضاة مسقط إلى الإدلاء والمساجلة بين حشد من العلماء والرشداء سنة 1359هـ/1940م فأنشأ مرتجلًا على "بحر الكامل" قصيدته المعنونة بـ"فاسلمْ أبا قابوس"، وكان ذلك قُبيل وفاته بأربع سنوات. وقد نقلها لنا الشيخ الخصيبي في (شقائق النعمان: 3/201).
سمات شعرية الارتجال
عند دراسة هذه القصيدة سيعثر الدارس على ملامح خاصة تنماز بها شعرية الارتجال والمساجلة اخْتصّ بها شعراء هذا العصر، وتبدّت ملامحها جلية في قصيدة القاضي عيسى الطائي، وأبانت عما انطوت عليه قريحته الشعرية من طاقة إبداعية عالية ومخزون تراثي ثرّ من الألفاظ البسيطة المتداولة. وفي تحقيق هذه الغاية التي يأنس إليها كل شاعر وناثر، يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة): "إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلِمٌ مفردةٌ، وأن الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما تَعَلّق له بصريح اللفظ". وخلافًا لهذا نجد الشاعر يستخدم (إيقاع الخبر والإنشاء)؛ إذ بمطالعة القصيدة نجد حركية الإيقاع تتأثر باختلاف وأنواعية الخبر والإنشاء على مدار النص؛ بل نرصد تصاعدًا أو نزولًا للانفعال الوجداني، وفق دوران العاطفة في فلك المعاني؛ بل إن التغاير بين أساليب النداء والاستفهام والإخبار، والمزاوجة بين الخبر والإنشاء، يثري الدلالات ويستقطب القارئ ويجعله يشاركه أفكاره.
ومن هذا المنطلق تمكّنّا من رصد 4 سمات انمازت بها قصيدة الطائي المرتجلة في التهنئة بمولد وريث عرش دولة البوسعيد من بعده أبيه السيد سعيد؛ وهي:
(أ) ألفاظه مشحونة بطاقة انفعالية وحمّالة أوجه للعديد من الإيحاءات والدلالات تنقل المستمع معها إلى جوّ نفسي صادق يتفصَّد بالمعاني، ويحيل إلى مضامين مفتوحة على عوالم شتى من التأويل والمجازية المفرطة. وهنا نسوق مثالا من بديع ما جادت به قريحة الطائي من تعبير شعريّ يشعّ بالطاقة الانفعالية الصادقة في متضمنا في قوله: [(أبشرْ بِشِبْلِكَ إنَّه سيكونُ إنُ // شَاءَ الإلهُ على النفيسِ نَفِيسَا)]
(ب) المباشرة في توظيف الألفاظ للتعبير عن المعاني المطروقة والمتداولة بين الناس، ولكنه نجح في تلبيسها أردية الشعر، فأخذت المستمعين إلى المعنى المراد إظهاره دون عناء البحث فيما وراء المعاني، أو التأويل لما هو معروف. وفي هذا الاتجاه نرصد قول الطائي الذي يبدو من ظاهره معنى شعبيا متداولا على ألسنة الناس ويردده الخطباء فوق المنابر؛ لكنه انتقل به من خانة الشائع المطروق إلى جملة مجازية مشحونة بطاقة شاعرية عالية: [(اللهَ نسألُ أنْ يقيهِ مِنَ الرَّدى // ويقيهِ أيضًا من دَهَا إِبْلِيسَا)].
(ج) البراعة في توظيف اللغة والانتقال من "التلميح" إلى "التصريح" والاتكاء على الفعل الماضي في التأكيد على مراده، وإيصال رسالته، عبر استراتيجية الحوار الظاهر والمضمر بين حنايا القصيدة على نحو ما نجده في قوله: [(إنّي تركتُ الشِّعرَ لكنْ فضلُه // قد هاجَ فيَّ منَ القريضِ رَسِيسا)].
(د) جاءت اللغة الشعرية في قصيدة القاضي الطائي قريبة من الأذهان لا تتوسل بالمتقعِّر أو الوحشيّ من الألفاظ، وتنوعت أساليبها ما بين الخبر والإنشاء، واعتمدت البساطة والسهولة منهجا في مخاطبة السامعين لتقريب الأفهام من المعاني المقصودة. وتصدُق هذه السمة مع ما جاء في كتاب (الصناعتين، ص 73 لأبي هلال العسكريّ) مؤكد "أنّ أجود الكلام ما يكون جزلا سهلا لا ينغلق معناه، ولا يُسْتَبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مُستكرهًا، ومتوعرًا متقعرًا، ويكون بريئا من الغثاثة عاريا من الرثاثة"، ومن هذا المعنى أنشد شاعرنا: [(يا أيُّها المَلكُ المُعَظّم مَنْ لَه // تُحْدَى الرَّوَاسِمُ يَا أبَا قَابوسَا)، (يَا أيّها المُمَلَّكُ بِالحُسَامِ وبِالنَّدَى // وسَديدِ رَأْيٍ أنتَ لا بِلْقِيسا)].
أنماط تشكُّل الصورة الشعرية
وإنْ كانت هذه القصيدة من شعرية المناسبات والمرتجلة إل أنّ الشاعر قد راكم فيها تلالا من الصور الشعرية التي يتوقف أمامها النقد بالفحص وبالدرس، ويشتغل على تفكيكها واستكناه معانيها، فهي في النهاية "رسم قوامه الكلمات، وإن الوصف والمجاز والتشبيه يمكن أن تحلّق صوره، أو أن الصورة يمكن أن تُقَدَّمَ إلينا في عبارة أو جملة يغلب عليها الوصف المحض، ولكنها توصّل إلى خيالنا شيئا أكثر من انعكاس متقن للحقيقة الخارجية، إن كل صورة شعرية لذلك هي إلى حدٍّ ما مجازية" وِفق تعبير سي دي لويس في كتابه (الصورة الشعرية). وانطلاقا من هذه الرؤية حاولنا اكتشاف القوالب التي تشكّلت في إطارها الصورة الشعرية؛ فوقفنا على أربعة أنماط هي:
(أ) إخراج الأغمض إلى الأظهر (البليغ)
في هذا النوع من الصور الشعرية اتكأ شاعرنا الطائي على ركنين اثنين في بناء الصورة (المشبه) و(المشبه به)، وأسقط الأداة ووجه الشبه سعيا إلى توضيح بعض الصفات التي قد تغمض أو يعسر فهمها أو تقريب معناها في أذهان جمهور السامعين المتحلقين من حوله بالاستناد إلى مبناها؛ وذلك لإجراء مقارنة بين (كلمة) و(نظيرتها)، وفي سبيل ذلك اعتمد في ائر تشبيهاته على التشبيه البليغ (المفرد). ومنه نذكر [(نجل أقيال/ شبل قساورٍ/ أهل الهدى/ شفاءٌ رأيه/ العلا وقفًا أراها)].
(ب) ترميز المُضمر داخل (السياق)
جلال الشعر وجماله وبهاؤها يتخفّى خلف رمزيته؛ فالرمز هو ثمة بقعة ضوء تشّع نورا في المناطق الغامضة، لكن مصدرها دائما يتوارى خلف غلالات المعاني المضمرة، وينظم الصور والمجازات والأخيلة في سلك واحد فتبدو كعقد لؤلؤ في جيد القصيدة. ومن سحرية النظم في هذه القصيدة نقرأ قول شاعرنا عيسى الطائيّ: [(أنت المُمَّلك بالحُسام وبالنّدى)، (أحيا نداه نفوسا)، (خمر السرور)، (حنادس الظلماء)].
(ج) تغيير وظائف الحواس (التراسل)
من المختلف تولد الدهشة، ومن تحت ظلال الرمز بزغت شمس البلاغة، ومن قلب البلاغة طلع نجم (تراسل الحواس)، وهو فن يخالف المباشرة الفجّة التي تُنزلُ الشعر من عليائه إلى مائدة الكلام الذي يتحلّق حوله العوام، وهو فن يطغى على إبداع (الرمزيين) وضارب بجذوره في القِدَم، بل واكب ميلاد الشعر قبل عصر الكتابة، ولكل أمة وجيل نصيب منه وليس وقفًا على الشعر الأوربيّ. وفي أبسط معانيه يعتمد على تبادل وظائف الحواس الخمسة، وفي أرقى معانيه يتحقق بقدرة الشاعر أو الأديب في أي فن من إزالة الحواجز بين الحواس. ومن بديع ما قاله الشيخ عيسى الطائي وتحققت فيه بلاغة تراسل الحواس قوله: [(إن فاهَ خِلتَ الدرّ يُنثرُ حوله // فكأ في أحشائه القاموسا)] هنا الشاعر انتقل بالكلمات من (حاسة السمع) في قوله (فاهَ) إلى (حاسة الإبصار) والرؤية العينية للكلمات في صورة جواهر تتلألأ.
(د) تبادل المدركات (التشخيص والتجسيد)
تقنية التجسيد والتشخيص هي خاصية ملازمة للفن الشعريّ بوجه خاص والإبداعي بوجه بما تحمله من طاقة لامتناهية وقدرة فذّة على التخييل، بل تشع في القصائد دينامية تتولّد على مدار تحرك الصورة وانبعاثها في وجدان القاريء، وتتبدى هذه الثيمة في ابتكار الشاعر الطائيّ للكثير من الصور الاستعارية فنراه يُلبس الجمادات روح إنسانية خيّرة أوشريرة تتحرك بيننا، كما في قوله: (يقيه من الردى)، وإلباس المجرد ثوب صورة المتحرك كما في قوله: (أحيا البشير نفوسا)، (عُمان أشرقت)، (هاج في من القريض) (أسس ملكه في هام السها) (أحيا نداه نفوسا) (العلا أرها وقفا عندكم محبوسا)].