ناصر أبوعون
أمّا قبلُ.. فإنّ القصة القصيرة في نشأتها ضربت بجذورها في أعماق الزمن منذ الرسوم الأولى للكتابة المصوّرة على جدران الكهوف والمعابد؛ ثم ارتبط بزوغها تدريجيًا كفن أدبيّ مستقل على هامش عالم الصحافة، وربّما كانت (القصة الإخبارية الصُّحافيّة) هي البذرة الأولى التي حرثها الإعلاميون الأوائل في تربة الأدب؛ فتبرعمت واستطالت وصارت شجرة تُعَرْبِشُ فروعها، وتفرش ظلالها على المسارات المؤدية إلى بقية الفنون الأدبيّة؛ فما من قصيدة إلا وتحمل في خليتها الأولى قصة قصيرة، وما من روايةٍ إلا وتشظّت مشاهدها إلى قصص قصيرة تتشابك في قُماشة السرد، وتنمو وتتسع من المفتتح حتى نقطة النهاية في السطر الأخير، وما من عمل مسرحيّ إلا تَخَّفَّتِ القصة القصيرة والقصيرة جدَا تحت إبط الفكرة والبناء الدراميّ وصولا إلى الحبكة.
أمّا بعدُ.. فإنه على صعيد التكنيك الفني في بناء معمار القصة القصيرة، مازالت تقنية الفلاش باك (Flashback) هي الأكثر توظيفًا لدى الكثير من الأدباء؛ لأن من خلالها يستطيع القاص (تكثيف الزمن، وتأطيره) فهي بمثابة النخاع الشوكيّ الذي يقيم أَوَدَ عمودها الفقريّ، بل المقص الذي يقطع حبل الإسهاب، ذلك الفيروس الذي ينتشر فينسف القصة كنوعٍ أدبيّ، ويأخذها إلى مسارب أخرى. ويمكننا إدراك هذه التقنية في قصة (سفينة الوهم) للقاص سعود الطائيّ الذي نجح في وضع بطل قصته ما بين قطبين متجاذبين أحدهما سالب والآخر موجب: (زنزانة السجن ويوم إطلاق سراح السجين عبد الله)، ثم ضغط الزمن ما بين القطبين)، وترك القاريء يمارس بحرية فضفاضة الحركة بين القطبين؛ فيتعاطف تارةً مع البطل، وتارةً أخرى يتهمه بالغباء والجنون.
وعلى منحى آخر رأينا سعود الطائي وظّفَ الفلاش باك في (تفسير سلوك عبد الله بطل قصته)، الذي وقع فريسة وأسيرًا لرغبات نفسه الأمّارة بالسوء، وقاده وهم الثراء السريع إلى تصديق ما ينافي العقل، ويناقض الوعي؛ فاستدان من طوب الأرض ليجمع تكاليف استخراج سفينة مُحملة بالحديد غرقت في الميناء، وهي قصة مُخْتَلَقة زرعها محترفو الاحتيال والنصب في عقله السَّاذج، فانطلت عليه الخدعة وخسر كلَّ شيءٍ وصادرَ حُريته بغبائه وطمعه.
ومن خلال الفلاش باك يكشف سعود الطائي لنا السرّ الذي أخفاه داخل طبقات القصة بداية من العنوان المباشر(سفينة الوهم)؛ ولكن القاريء منذ السطر الأول يظل يعتقد جازمًا بوجود سفينة محمّلة بالحديد غارقة في الميناء، ويظل يتماهى مع السرد إلى أن تحين لحظة الكشف، التي تتعرّى الخدعةُ فيها تحت تأثير تقنية الفلاش باك وتنكشف الكذبة الكبرى التي عشَّشت في العقل المريض للبطل عبد الله ونتأكد أنه لم تكن هناك سفينة على الإطلاق إلا في الخيال المريض لبطل القصة.
وعلى المقلب الآخر استطاعت تقنية الفلاش باك (تعميق البعد النفسي) داخل القصة، والذي يمكن إدراكه من خلال عبارات مشحونة بالصور التعبيرية الآسرة والتي تأخذ القاريء إلى مناطق أبعد من السرد، وأقرب إلى الشعر. مثل قوله: (بدأت أحلام الثروة تنمو كأغصان الأشجار العالية، محمّلة بالقصور والسيارات الفارهة)، (وكان لكلمة: تصاعد سعر الحديد ونقصه في السوق أثرًا سحريًّا ووترًا موسيقيا في نفس عبدالله).
ويمكننا بطول قصة (سفينة الوهم) وعرضها رصد ثلاثة أنواع من الفلاش باك يتصدَّرها (الفلاش باك الكامل) حيث يأخذنا القاص من زنزانة السجن وساحاته، حيث يقضي عبد الله بطل قصته عقوبة السجن، ويعود الطائي بنا تدريجيا إلى سيرة حياة السجين الأولى، وطموحاته، وأحلامه في الثراء وتمنيات الرفاه التي تَصَوَّرها في خياله المريض، والتي لا تتفق وقدراته وموارده المالية. ونعثر أيضًا على (الفلاش باك الجزئي)، وقد صاغه سعود الطائي في صورة (ومضات/ لقطات قصيرة/ ذكريات/ صور ذهنية) متتالية، مثل: (أخيرًا خرج عبد الله من السجن/كان عبد الله موظفًا وسيم الطلعة ونفسه ضعيفة أمام إغراءات الدنيا/ أخبره التاجر عن باخرة غارقة/ جمع الكثير من المبالغ/ اشترى منزلا أنيقا وسيارة فارهة...). ونصادف أيضا بـ(الفلاش باك المحفِّز) وقد وظّفه الكاتب من خلال ثلاثة عناصر؛ هي: (الصوت، والمكان، والأغراض) فأمّا الصوت فنسمعه في جمل ثلاث هي:(قراءة القرآن/ ورش الحديد/ وتر موسيقي)، وأمّا استدعاء المكان فنعثر عليه في ثلاث مفردات هي:(السجن/ الميناء/ الباخرة) وأمّا الأغراض يمكننا التقاطها في ثلاث صفات هي: (أغصان الأشجار العالية/السيارة الفارهة/ المنزل الأنيق).
وفي الأخير إذا تساءلنا: كيف نجحت تقنية (الفلاش باك) في إيصال الفكرة للقاريء رغم بساطة المعالجة، وسهولة التناول؟ يمكننا القول إن الكاتب سعود الطائيّ – الذي أحْسَبُه يكتب من أجل المتعة، ويتوارى عَمْدًا عن أنظار شلل المبدعين، ولا يشارك في الفعاليات الثقافية، ولا يحْسِبُ نفسه على المشهد الثقافي العُماني، لم يوغلُ في الوصف، ولم يخاتل القاريء بلغة شعرية متعالية، ولم يأخذه في متاهة من الغموض، ولم يُوقعه في شبكة عنكبوتية مصنوعة من الحكي والسرد وتقاطع الحوار مع الحدث؛ فتصير القصة أشبه بالأحجية. بل استعمل الطائي الفلاش باك للربط بين حدث (العفو عن المساجين) بمناسبة حلول الأعياد الإسلامية مشمول بقرار من أعلى سُلطة و(قصة السجين عبدالله)، هذا فضلا عن التدرج الزمني من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فلم يكن الفلاش باك حشوًا، ولم يكشف كل شيء للقاريء دفعةً واحدة، بل كان خادمًا لفكرة القصة؛ وذلك عبر انتقالات فنية واضحة استفاد الكاتب فيها من (اللغة والإحساس وتغيّر الزمن) وبطريقة مكثفة وقصيرة جدًا.
