جدليات الخريف

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

المُتابع للأحداث في فصل الخريف سيُلاحظ أنَّها تتخذ 3 مراحل مُتكررة تقريبًا لعدة سنوات ماضية- باستثناء فترة كورونا- وتبدأ من شهر إبريل من كل عام على المستوى الإعلامي والأخبار المصاحبة التي توضح الاستعدادات وتكشف عن بعض التجهيزات الجديدة أو المحدَّثة من النسخ السابقة، وما يُستثار حولها من لغطٍ وتبصرات عند البعض وربما تخمينات في أحيانٍ ومناسبات عدةٍ تستند في معظمها على المشهد الظاهري أو الحكم المُسبق.

ثم ننتقل إلى المرحلة الثانية مع دخول الموسم نفسه وتغير الطقس منذ منتصف شهر يونيو لتنشط هنا مواقع التواصل بسبب آراء المستخدمين والتباين فيها ملحوظ ومعلوم وبات من الأمور شبه المسَّلم بها، حتى نصل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة وهي الأوج في شهر أغسطس ويتزايد معها كل شيءٍ تقريبًا بسبب توافد أعداد كبيرة من الزوار كما أنها مرحلة تنطلق سريعًا للختام حيث الموسم الدراسي بفصليه منافسٌ صلبٌ جدًا لموسم الخريف قياسًا مع بقية الفصول.

كثيرًا ما نسمع عن انتقادات أغلبها يدور حول عدم الرضا عن التجهيزات المُتأخرة والتي تقترب المرحلة الأخيرة للانتهاء منها من المرحلة الثانية سالفة الذِكر، وهي بداية الموسم في شهر يونيو وقد لا يعلم المنتقدون الأسباب الكامنة وراء ذلك، وربما يعتقدون وبكل بساطة أنها تسويفات وتأخيرات متعمدة لكسب أطول وقتٍ ممكنٍ للاسترخاء، بينما حقيقة الأمر تُناقض ذلك تمامًا؛ إذ لا ينفي وجود الشيء عدم علمنا به والعاملون خلف الكواليس هم الأكثر معرفة بالصعاب والتحديات؛ سواءً كانت مالية أو جسدية أو ذهنية، ولعل هذه الأخيرة هي الأكثر قلقًا وخطورة على العاملين أنفسهم فلهم عظيم الشكر وبالغ الامتنان، ولكن البعض من المؤثرين على مستوى مواقع التواصل لا يقدرها ولا يهتم بها لعدم معرفته بها وبالتالي تدخل ضمن عدمية وجودها في وعيه وكل ما يهمه هو الخروج بأكبر محصلةٍ نقدية تُغذي منصته بالمتابعين.

بعد أن تمُر المرحلة الأولى مع كل جدلياتها ومتناقضاتها بسلامٍ، تبدأ الثانية وهي الأكثر جدلًا وتناقضًا والأقل استقرارًا، وكما أن البيئة في محافظة ظفار خِصبة طبيعيًا فهي خِصبة كذلك للمنتقدين الساعين وراء صناعة محتوى على وسائل التواصل وما أكثرهم، مع انخفاض ملحوظ في ظهور بعض من يُعرفون بالمشاهير مُؤخرًا؛ وتتكاثف الغيوم ويتراكم بعضها فوق بعضٍ لتحجُب السماء وكل أجرامِها ليلًا ونهارًا فيتبدل وجه الأرض ويتغير لونه في عدة أيام وبسرعة تدعو للغرابة ومع هذه التحولات الطبيعية الموثقة صوتًا وصورة يتوافد الزوار والسياح برًا وجوًا بأعدادٍ كبيرةٍ وتتراكم أعدادهم بعضها فوق بعضٍ بسرعة تدعو للدهشة حتى يبدو للناظر غير المتأمل بأن المكان لن يتسع لهم وعمليًا هو عكس ذلك لما نشهده من زحامٍ في الطرقات والأسواق لنبدأ بالخوض في أحاديث البنية التحتية وصناعة السياحة كما كنَّا نفعل في الأعوام الماضية ويبدو لي أن تكرار الحديث في هذه الأمور بدأ يتخذ اتجاه العادات والتقاليد المرتبطة بالمواسم والمناسبات.

في هذه المرحلة السياحية تكون المنطقة قد استوعبت أعدادًا غفيرةً من الناس وهم بلاريب من أعراقٍ وثقافات مختلفة وطباعٍ وآدابٍ متباينة ونشأةٍ وتربيةٍ متفاوتة وهكذا يحدث مع السياحة وتأتي أفعالهم وتصرفاتهم بحسب تلك المعايير فتظهر معهم المدخلات التي ربما لم يعتادها المجتمع المحلي أو لا يستسيغها في بعض الأحيان، لكننا نعلم أنها مرحليةٍ يُؤطرها ظرف الزمان وضرورات المكان، وستنتهي فور مغادرتهم ولا نستطيع وصمها بصفة مُدخلات فكرية جديدة ذات تأثير عميق على المجتمع المحافظ المتمسك بثقافته.

تَعمَد تجهيزات المواقع السياحية والمناشط إلى المواءمة بين الزوار والمتطلبات لاحتواء كل أنواع الميول والأمزجة والرغبات بقدر الإمكان والمستطاع ولكنها لن تستطيع فرش بساط أحمر تحت كل قدم تطأ أرضًا أو تدوس حجرًا، ولن تمنع مجموعة شباب من الرقص في مكانٍ قدِموا إليه بإرادتهم غير مُكرهين ولا دخالة محدثة على المجتمع؛ حيث إن ظرفية الموقع تؤهل لذلك، وحريٌ بمن لا تتوافق مع ميوله تلك الأماكن تجنُبها، ولكن المُدخل هنا هو المنافحة عن النفس بأخذه على محملٍ شخصي وانتفاء ضرورة الجلوس على الكرسي أثناء الرقص يجعل منه سلاحًا فتاكًا لدفع الضرر بموجب الوقوع الفجائي في خلط فجٍ للعادات والتقاليد. كما لا يُمكن للتجهيزات تصريف ازدحام السير في الطرقات بعصى ساحرٍ أو ضغطة زر؛ إذ إنَّ العدد الضخم للسيارات القادمة أكبر من القدرة الاستيعابية للشوارع نفسها، وقد لا نرى أو لا نعلم أن الحلول المستقبلية موضوعة مسبقًا، فنحكم بصورة نقدية لاذعة بعدم وجودها، لكننا نستطيع رؤية الجهود الحثيثة والمضنية الحالية في التنظيم ليستوجب علينا الحكم عليها بالإشادة والإعجاب.

عندما نصل لأوج المرحلة الثالثةِ والأخيرة، وقد استوى موسم الخريف على سوقه واتخذت الأرض زخرفها وازدانت النباتات بثمرها وطلعها واغرورقت الهضاب والذرى والوديان في بهاءٍ قشيبٍ من الخضار، تبدأ شلالات النقد والتنمر بأنواعها بالتدفق بكل أسف لتصب غيضها وتغذي بحر مواقع التواصل، كما تجيش شلالات المياه العذبة النميرة بالتدفق وتفيض على جنبات الطرق، لتصب فيضها بكل حسرة مغذيةً بحر العرب، وتتعالى الأصوات وتتنادى بضرورة التعديل والتغيير والإصلاح وغيرها، ومنها ما هو حكيمٌ متزن يضع نداءه في قالب نقدي واقعي ويضمِّنه بالآراء والمقترحات والحلول؛ وهي أصوات لطيفة غير مزعجة يسمعها القريب والبعيد كصوت الشلال جعفر في دربات وهو يقول للجميع: "أما آن الأوان للاستفادة من هذه المياه المهدورة"؟! بيد أن لغة الشلالات لا يفهمها بعض الناس، ومن الأصوات ما هو أحمق قارص ويبحث عن محتوى نقدي ساعٍ وراء قافلة المنتقدين لمجرد النقد فقط، وهي أصوات خافتة لا تسمع وربما لا يلقى لها بالًا كصوت ذبابة البرغوث الظفاري أو المعروفة محليًا بـ"العارنوت"، وهي تهمس في أذن أحد الذين يفهمونها قائلةً: "ماذا لو لم أكن موجودة، هل تعتقد بأن الأمر سيبقى على ماهو عليه، ألا تعلم أن الله قد خلق كل شيءٍ بقدر"؟! فيقول: هذا أمر لا يمكن التفكير بحلهِ به، كما نفكر بالمناشط والفعاليات الموسمية، ونترك الجواب لخبراء البيئة بوضع رؤيتهم وتوقعاتهم لأسوأ وأخطر الاحتمالات على المدى البعيد، وأنتِ عليكِ الابتعاد عن بعض المواقع السياحية في الوقت الحالي فهناك خطر على حياتكِ وحياة أبنائك، وسوف أتركك الآن لأني سأغادر هذه الأرض الجميلة عائدًا بسبب انتهاء الإجازة الصيفية واقتراب تاريخ عودة الطلاب إلى المدارس، فوقت الخريف انتهى بالنسبة لي وليس بالنسبةِ لكِ كموسم.