الطليعة الشحرية
"لا أوافق على أن الكلب في المعلف له الحق النهائي في العلف، حتى لو قبع هناك لزمنٍ طويل"، ونستون تشرشل.
"لا أُقر على سيبل المثال بأن ظلمًا كبيرًا قد وقع على الهنود الحمر في أمريكا أو ذوي البشرة السوداء في أستراليا، ولا أُقر بأن ظلمًا ارتُكب في حق هؤلاء النَّاس لأن عرقًا أقوى مكانة، وأوسع حكمة ومعرفة قد جاء واحتل مكانهم وبلادهم"، ونستون تشرشل.
لا يختلف الماضي العنصري الإمبريالي عن الواقع الرأسمالي الأحادي القطب والذي يتوسع كسرطان في عالمنا الذي نعيش فيه اليوم. بين الماضي والحاضر تختلف به الهوية والصبغة والأدوات. الأمس أعطى المستعمر لقب "كلبٍ" لمن استحل مالهم وحالهم وأرضهم، بينما اليوم يسعى النظام العالمي الأحادي القطب إلى طمس الهويات والانتماءات ويسعى جاهدًا إلى فرض "الجندر" وخلق نظامٍ مسخ بلا هوية، هو عالم اللا شيء، وعالم اللاهوية.
(1)
الفرانكفونية
استولت فرنسا على غرب ووسط القارة السمراء في منتصف القرن التاسع عشر وتوسع التبادل التجاري قبل ذلك بقرنين وراجت تجارة العبيد والصمغ العربي ومختلف المواد الأولية. تمكنت فرنسا من السيطرة على أكثر من 35% من مساحة القارة السمراء واستمر حكمها ثلاثة قرون في عشرين دولة أفريقية. وتميز الاستعمار الفرنسي عن غيره كونه آيدولوجيًا ذا هوية ثقافية فرنسية، ولا نستغرب ذلك كون أن أول من استخدمه هو الفيلسوف "دي تراسي" في عصر التنوير الفرنسي. وحرص الاستعمار الفرنسي على صبغ الهويات الخاصة للشعوب بألوان المسيحية والفرانكفونية.
(2)
فرنسا الدموية
لقد كان الاستعمار الفرنسي دمويًا وحشيًا، خلّد لفرنسا في ذاكرتها التاريخية فصولًا سوداء في تجارة الرقيق، والمجازر البشرية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، زيادة على نهب الثروات، وتدمير المدن، وحرق المكتبات والمساجد. توزعت القارة بعد الاستقلال بين أنظمة فرنسية الصنع والهوى، وأخرى ثورية أو وطنية، سرعان ما تخلصت منها فرنسا، وأقامت وكلاء محليين يحافظون على مصالحها الخالدة.
بالرغم من انسحاب فرنسا العسكري ومزاعم الاستقلال المزيف احتلت فرنسا مناطق غرب ووسط أفريقيا قرونا عدة وأنشأت أشكالًا مباشرة للإدارة وفرضت لغتها وأنظمتها وقيمها وأنظمتها الثقافية. وفي سلسلة الانتفاضات الأخيرة التي طالت القارة السمراء وتهديد ووعيد صبي فرنسا المترئس وبروز لاعبين جُدد في ساحة النزاع بين من هم مرعوبين على مصالح أسيادهم وبين مؤيدين وداعمين للمنتفضين من الروس والإيرانيين والصينيين، في كل تلك الجعجعة هل حرب اصطفاف أحلاف للاستعداد لحرب أخرى حرب النظام العالمي الجديد وما علاقة الهوية بذلك.
(3)
النظام العالمي الجديد
يُشير مصطلح النظام العالمي الجديد "New World Order"، إلى حقبة من التاريخ تشهد تغيرات جذرية في الفكر السياسي العالمي وتوازن القوى. ويرتبط هذا المصطلح بمفهوم الأيديولوجي للحكم العالمي بمعني الجهود الجماعية الجديدة لتحديد وفهم ومعالجة المشكلات العالمية التي تتجاوز قدرة الدولة القومية وحدها. كتب هربرت جورج ولز كتابًا نُشر عام 1940 بعنوان "النظام العالمي الجديد". وتناول فكرة عالم خالٍ من الحرب حيث ينبثق القانون والنظام من هيئة تحكم العالم وبحثت مقترحات وأفكارا مختلفة.
استخدمت عبارات مشابهة لعبارة "النظام العالمي الجديد" في نهاية الحرب العالمية الأولى وذلك عندما دعا وودور ويلسون عصبة الأمم لمنع العدوان، أعيد استخدام عبارات مشابهة عند وضع خطط الأمم المتحدة ونظام "اتفاقية بريتون وودز"، وهي اتفاقية دولية بموجبها اعتمد الصرف بالدولار الذهبي، فتحول بذلك الدولار من عملة محلية إلى عملة دولية.
واستخدم المصطلح بعد ذلك بأثر رجعي على الترتيب الذي وضعه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية باعتباره "نظامًا عالميًا جديدًا"، عند إنشاء مجموعة مؤسسات دولية وتحالفات أمنية أمريكية مثل الناتو و"نظام بريتون وودز" الخاص بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. ومن الغريب أن يستخدمه ميخائيل غورباتشوف في نهاية الحرب الباردة وجورج بوش الأب في حرب الخليج: "بحثت مئات الأجيال عن هذا الطريق المراوغ إلى السلام، في حين اندلعت آلاف الحروب عبر نطاق المساعي البشرية. اليوم هذا العالم الجديد يكافح من أجل أن يولد عالم مختلف تمامًا عن الذي عرفناه". هل لنا أن نعتبر أن حرب الخليج هي أول اختبار للنظام العالمي الجديد؟ وما هي الهيئة التي يتوجب عليها حُكم العالم وما هي الأفكار والمقترحات الجديدة؟
الأغرب من كل ذلك؟ هو استخدام عضو مجلس الشيوخ عن نيويورك روبرت إف. كندي" عبارة "المجتمع العالمي الجديد" في يوم خطاب التأكيد في جنوب إفريقيا في 6 يونيو 1966 وتم اغتياله في 6 يونيو 1968.
(4)
فرنسا دون أفريقيا؟
اعتمدت فرنسا في إدارتها لمستعمراتها في القارة السمراء على السياسية البريطانية الشهيرة "فرق تسد" لتسهل إدارتها وتضمن عدم حدوث تمرد كعادة المحتل.
تمكنت فرنسا من إيجاد تيار تابع لها يدافع عنها وعن احتلالها ويواجه مقاومي الفرنسة وعرف هذا التيار باسم (الأوْرَبة الأفريقية) وهو بداية لتذويب الثقافة والهوية الأفريقية وفرنستها. اضطرت فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وبداية صعود الرأسمالية إلى الخروج العسكري من مستعمراتها، ومنحها استقلالًا شكليًا ومشروطًا وافق عليه معظم الزعماء الأفارقة. تدرك فرنسا أنها لا تساوي شيئًا بدون إفريقيا رغم خروجها المزيف إلا أن فرنسا لم تستطيع أن تمنع نفسها من التأكيد على احتياجها الشديد لأفريقيا.
فقد قال فرنسوا متيران عام 1956 وقبل أن يصبح رئيسًا لفرنسا: "دون أفريقيا فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين"، وعادت ذات العبارة على لسان الرئيس جاك شيراك الذي كان أكثر وضوحًا ومباشرة في الأمر فقال في عام 2008: "دون أفريقيا فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث".
(5)
هل أفريقيا مهمة؟
تعد أفريقيا محط صراع الأقطاب القوى الدولية باعتبار أن أفريقيا من الدول الكبرى مخزون استراتيجي للطاقة والموارد الطبيعية ومعدنية والمواد الخام المهمة في صناعات النووي، كل ذلك كجعلها محطة صراع نفوذ وطموحات استراتيجية بين القوى العالمية كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل وتركيا والصين وروسيا وإيران من جهة أخرى. تتحكم القارة السمراء في احتياطات الغاز والبترول بما يقارب 124 مليار إلى 100 مليار برميل في انتظار الاكتشاف. وتتركز الثروة النفطية بالقارة في دول نيجيريا والجزائر ومصر وأنجولا وليبيا والسودان وغينيا الاستوائية والكونغو والجابون وجنوب أفريقيا. يصدر إجمالي 23% من إجمالي إنتاج النفط إلى أمريكيا و14% إلى الصين و25% إلى الاتحاد الأوروبي. وتمتلك أفريقيا احتياطي 500 تريليون متر مكعب من الغاز العالمي. ناهيك عن اليورانيوم، الذي تنتج أفريقيا منه ما يقارب 18% من إجمالي اليورانيوم وتحتفظ بأكثر من ثلث إجمالي احتياطات العالم منه. ويمثل احتياطي الذهب 25% من إجمالي إنتاج العالم، وذلك عبر جنوب أفريقيا وغانا، وغينيا، ومالي، وتنزانيا. وتنتج أفريقيا ما يقارب 40% من إجمالي الألماس. هذا غير معدن الحديد والكوبالت والبلاتين وأضف على كل ذلك القارة السمراء أرض زراعية خصبة، كل تلك الثروات ودول أفريقيا تقع تحت خط الفقر.
(6)
أقطاب الصراع
يتصارع الأمريكيون والصينيون على الموارد الطبيعة الخاصة بالطاقة النووية والنفط؛ حيث تعتبر الصين ثاني مستهلك للنفط في العالم، بينما تعد الولايات المتحدة أكبر مورد للنفط للاتحاد الأوروبي. ومن المهم لأمريكا أن لا يتزعزع عرش القوة الأحادية، لذا ترصد أمريكا كل تحركات أي منافسة لها في القارة السمراء. وفي المقابل يتجلى الصراع الروسي الأمريكي في قطبين الطاقة والسلاح.
تَعتبِر روسيا أفريقيا أكبر سوق مستهلك للأسلحة. وتُعتبر القارة الأفريقية أحد أكبر المناطق التي تشهد نزاعاً مسلحًا على مستوى العالم. فقد تضاعفت صفقات السلاح الروسي بنسبة 200% خلال العقد الأخير، بالتأكيد صفقة مربحة لاستعادة نفوذ روسيا في المنطقة الأفريقية، وهو أمر يهدد الهيمنة الأمريكي. في الجهة المقابلة يحاول الاتحاد الأوروبي اختراق الصراع والثبات في أفريقيا عبر مشاريع وأجندات مثل مشروع (التمييز الأمني والأوروبي" ومشروع توحيد (السلوك الخارجي الأوروبي) وجعله منسجما مع دول أفريقيا وربطة بالتنمية والأمن. ناهيك عن التوغل المذهبي وتوغل القوى الصاعدة.
(7)
ماذا بعد العالم الجديد؟
تكالبت كل تلك الصراعات واختلفت الأدوات منذ بداية رحلة الاستعمال في القارة الأفريقية منذ قرون استعمار أو لنسميه هامشيا استحمار، أدواته تطوير ثقافة جديدة لغة جديدة صبغة جديدة تمسيح وتبشير جديد، كل ذلك لخلق ثقب أسود في الهوية لا تتناسب مع الحداثة والتطور والعصر لا تصلح لعالم جديد.
ويعاد الصراع ذاته بعد قرون باصطفاف جديد ووعودٍ جديدة، حرية جديدة، وتبشير بتشيع جديد. انتفاضة القارة السمراء في ظاهرها انتفاضة على الطغيان والوحشية الفرنسية، وفي باطنه انتفاضة قومية ترفض حل هويتها تحت ضغط دولي التنمية مقابل المثيلة (الشذوذ الجنسي)، التطور مُقابل فرض "الجندر".
الصراع لبناء نظام عالمي جديد، والذي تسعى أمريكا وحلفاؤها لبنائه وفرض السيطرة والهيمنة فيه بمركزية أحادية لن يتوقف. وقد يخف الصراع مستقبلًا بعد نشر جائحة عالمية جديدة أو نشر أزمة غذائية بدعوى قلة الموارد، وقد يتم إخضاع الجميع بإذابة اللغات وتشويه الهوية والانتماء؛ وخلق هويات جديدة.
كل تلك الصراعات لُبها النظام العالمي الأحادي الفريد؛ قوامه الانتماء لهوية واحدة وهي اللا هوية.. إنه نظام العبودية الجديد تحت شعار "لا هوية.. لا شيء"!!