من عمالقة الدبلوماسية العربية

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

بعيدًا عن التعريفات الأكاديمية والقوالب النمطية، الدبلوماسية هي ترجمة حرفية لسياسات الدولة في الخارج، وهي الترويج والتسويق للدولة في الخارج، وهي التمثيل التام والشامل للدولة بكل قيمها وثقافتها وموروثها في الخارج، وهي الدفاع عن مصالح الدولة ومواقفها في الخارج.

لهذا؛ يجب أن يكون الدبلوماسي على قدر عالٍ من القدرات الفطرية والتأهيل العلمي والتدريب الدائم حتى يُصبح مزيجًا من كل هذه التعريفات وحتى يُمكن أن يحمل الصفة الكاملة للدبلوماسي، وأن يتحمل أعباء مهامه وتكاليف تمثيله لبلده في المحافل الدولية.

وأنا هنا بصدد استعراض لأسماء عربية خلدها تاريخ الدبلوماسية رغم فتوته وجسامة المهام، لكنهم تسلَّحوا بقدرات فطرية ملفتة، مكسوة بالتشبه بأوطانهم إلى حد التطابق، فلم يكونوا ممثلين لأوطانهم فحسب، بل كانوا أوطاناً متنقلة وكعادة الوطني دائمًا والذي يمكن توصيفه بأنه إنسان بداخله وطن.

ولا شك عندي أنَّ هناك أسماءً لامعة غابت عن ذاكرتي، أو سقطت سهوًا عن عين ملاحظتي وحرص قراءاتي؛ فأنا هنا أستحضر الأسماء التي عايشتها بالعلم والمتابعة والسمع، مع يقيني التام بأنَّ هناك من الدبلوماسيين العرب الأكفاء لكنهم ظلمهم الزمن ولم تُختبر قدراتهم الطبيعية والمكتسبة كي يبرزوا؛ فالدبلوماسي في تقديري كالقائد العسكري، يعتمد في بروزه وشهرته على الحروب والمعارك التي خاضها، وبدون ذلك يبقى من صنف القادة النظريين والإداريين فقط.

أبرز الدبلوماسيين العرب -في تقديري- ممن شكلوا ظواهر ترقى أن تكون مدارس؛ هم: السفير الشاعر عمر أبوريشة (سوريا)، والسفير نزار حمدون (العراق)، وإسماعيل الحمداني (الجزائر)، وعصمت كتاني (العراق)، وسامي دروبي (سوريا)، وأحمد الشقيري (فلسطين)، ونبيل نجم (العراق)، والأخضر الإبراهيمي (الجزائر)، ومراد غالب (مصر)، وبشار الجعفري (سوريا).

 

عُمر أبو ريشة

ظاهرة لم تتكرر في الدبلوماسية العربية، ولد الشاعر الكبير والدبلوماسي القدير عمرأبو ريشة (1910-1990م) في مرحلة تاريخية ثرية بالأحداث الجسام في تاريخ أمته العربية، وكان شاهدًا على قرن كامل بالعين المجردة، إضافة لشهادات حواسه وجوارحه ووجدانه على ما التهمه بعينيه وأذنيه عن تاريخ أمته وآثارها الخالدة ورسالتها العظيمة تجاه البشرية جمعاء؛ لذا فلا عجب أن يكون عمر أبو ريشة أمة بداخل رجل بكل المعاني والمقاييس بآلامها وفخرها وعزتها ونخوتها وكبريائها.

عمل الشاعر الكبير أبو ريشة سفيراً لبلاده سوريا ومن خلالها سفيراً لعروبته وتاريخ أمته وقضاياها، لدى كل من البرازيل والأرجنتين وتشيلي والهند وأمريكا. ولا عجب أن يتمرَّد شخصٌ بصفات عمر أبو ريشة وقدراته ورسالته على أعراف وقوانين دبلوماسية كثيرة خلال رحلته في العمل الدبلوماسي، وأن يمارس دور الرحالة والمستكشف في أدغال الأمازون في البرازيل، ودور الأديب والشاعر في الأرجنتين وتشيلي، والفيلسوف في الهند.

أينما حلَّ أبو ريشة في مهماته الدبلوماسية، كان لصيقاً بعِلية القوم ورجال القرار وصُناع السياسة، ولصيقاً كذلك بطبقات المجتمع من أدباء ومفكرين ورجال دين وفلسفة، ولا يفارق أندية الجاليات العربية أينما وجدت، كعضو فاعل في مناشطها ووفياً لمناسباتها.

كان أبو ريشة صديقاً مقرباً من الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون (1895-1974م) فترة عمله كسفيراً لبلاده في بيونس آيرس. وكان صديقاً حميماً للزعيم البرازيلي جيتوليو فارجاس (1889-1954م) والذي رثاه أبو ريشة طويلاً بعد انتحاره يوم 24 أغسطس 1954م، بعد مقتل ابنه الوحيد وزوجة ابنه على يد عصابة خطفتهما وطالبت بفدية لإطلاق سراحها فرفض فرجاس ذلك؛ حيث أطلق النار على نفسه بعد شهرين من تلك الحادثة.

وكان فرجاس لفرط حبه للعرب وتاريخهم وثقافتهم يقول لـ"أبو ريشة" دائماً: "أشعر يا عمر بأنَّ في عروقي تجري دماء عربية، وأعتقد أن اسمي مشتق من جذور لغوية عربية"!!

انتقل أبو ريشة في رحلته الدبلوماسية بعد ذلك إلى الهند، فكان صديقاً مقرباً ومحبباً إلى الزعيم الهندي جواهر لال نهرو (1889-1964م) وعائلته ورفاقه كذلك، وحين انتهت مهمته ونُقلت خدماته إلى واشنطن طلبت منه الزعيمة أنديرا غاندي (ابنة نهرو 1917-1984م) العودة كسفير لبلاده لدى الهند مرة ثانية، في سابقة نادرة في الأعراف الدبلوماسية، فعاد -بعد موافقة حكومته- إلى الهند رغم نسجه لعلاقات شخصية رائعة مع الرئيس الأمريكي جون كينيدي (1917-1963م)، هذه العلاقة التي جعلت كينيدي يخصص ساعات طويلة لـ"أبو ريشة" في حديقة البيت الأبيض في أيام إجازاته، ويطلب منه أن يُعرفه بأصدقائه الذين يشاركونه ذات الاهتمام الأدبي والفكري من العرب المقيمين في أمريكا أو المهجر أو الزائرين له. فقد كان كينيدي مغرماً بثقافة الشرق إلى حدٍ بعيد وجليسًا ومحبًا لرجال الفكر والأدب.

وجد أبو ريشة نفسه في الهند وحضارتها وتاريخها وثقافاتها ودياناتها، فاغترف منها ما استطاع ليروي عطشه ونهمه العلمي وفضوله المعرفي والثقافي، بينما شعر بالاغتراب الحقيقي -كما يقول- في واشنطن والتي وجد فيها كل شيء مصطنع ومصنوع.

اشتهر عمر أبو ريشة الشاعر وفاق صيته السفير القدير الفذ، وقد اشتهرت أشعاره بنطق حروفها وسكونيتها بالفخر والعزة والكبرياء لانتمائه للعروبة والعرب، فأبو ريشة وجيله وبعض من أتى بعده ومن رحم ربي اليوم، حين يجاهرون بخيلاء عروبتهم ومجدها وعزها، لا يتحدثون بلاشك عن أمة طارئة على التاريخ، أو قوم يهيمون على قارعة الحضارة، كما يتوهم البعض اليوم ويتمنى الآخرون، بل قوم عشقوا المجد وفضائل الأخلاق، فأختارهم العلي القدير لرسالة الإسلام العظيم، الدين الخاتم وجعل نبي الرحمة ومتمم مكارم الأخلاق منهم (ص) والأماكن المقدسة بأرضهم، والقرآن الكريم بلغتهم، ليكونوا هامة الإسلام وقلبه.

 

نزار حمدون

نزار حمدون سعيد.. كان سفير العراق لدى الولايات المتحدة في الفترة من 1984 إلى 1988، ومندوب العراق في الأمم المتحدة في الفترة من 1992 إلى 1998. كما شغل منصب نائب وزير الخارجية في الفترة من عام 1988 إلى عام 1992 ووكيل وزارة الخارجية من عام 1999 إلى تقاعده في عام 2001م.

تاريخ ومكان الميلاد: 18 مايو 1944، العراق.

تاريخ ومكان الوفاة: 4 يوليو 2003، مانهاتن، نيويورك، نيويورك، الولايات المتحدة (ويكيبيديا).

اتصف نزار حمدون بمرونة عالية وذكاء فطري حاد، وكاريزما شخصية أهلته لخلق علاقات شخصية وثيقة ومؤثرة فترة عمله بالولايات المتحدة الأمريكية، واعتبره الساسة الأمريكان ظاهرة دبلوماسية لافتة، قادرة على تشكيل اللوبيات واختراقها والتأثير عليها في زمن كان العراق في أمس الحاجة إلى هكذا حضور، ومن أكثر المواقف وأبرزها للسفير نزار حمدون -بحسب علمي- علاقته الوثيقة بالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فترة حكمه لولاية أركنساس الأمريكية؛ حيث استطاع نزار إقناع حكومة بلاده بشراء حصتها من القمح عبر برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء من ولاية أركنساس، وبهذا انتعش اقتصاد الولاية وتحسن كثيرًا وبشكل ملحوظ؛ الأمر الذي رفع من منسوب شعبية كلينتون وأوصله إلى قمة الرئاسة لاحقًا، وهذا كان هدف ومخطط السفير نزار لتخفيف منسوب الضغط والحصار على بلاده العراق.

إسماعيل الحمداني (الجزائر)

رجل دولة جزائري، تقلَّد مناصب عديدة في بلاده من سفير ومستشار إلى رئيس حكومة، كان من الفريق الفاعل لاتفاقية الجزائر 1975م بين العراق وإيران، يتمتَّع بتاريخ نضالي وطني وتاريخ شخصي ناصع البياض، تولى من جملة مهامه -بحسب علمي- رئاسة سفارتي بلاده في السويد وإسبانيا، وكانتا بمثابة منفى له من قبل بعض رفاق الأمس، وبما أنَّه يحمل الجزائر بداخله قبل كل شيء فقد في نجح ببراعته ودهائه الفطري في خلق علاقات متينة ومتميزة بين بلده وهاتين الدولتين، تُوِّجت بتوقيع اتفاقيات لشبكة اتصالات مع السويد وخط الغاز مع إسبانيا.

 

سامي دروبي (سوريا)

أديب وسياسي سوري، عمل مُدرِّسًا جامعيًّا في جامعة دمشق، وسفيرًا للجمهورية العربية السورية في العديد من الدول؛ منها: مصر وإسبانيا ويوغسلافيا، وكان مندوبًا دائمًا لسوريا في الجامعة العربية.

اشتهر بترجمته لجميع أعمال دوستويفسكي، والتي تعد الترجمات الأشهر بالنسبة له، كما له ترجمات لمؤلفين آخرين كتولستوي وبوشكين وميخائيل ليرمونتوف وغيرهم. وُلد في مدينة حمص عام 1921. عمل مدرسًا للفلسفة في حمص، ثم عميدًا لكلية التربية بجامعة دمشق، وأستاذًا للفلسفة. بعدها استلم وزارة المعارف السورية، وأصبح سفيرًا للجمهورية العربية السورية في يوغسلافيا، ومصر، وإسبانيا، ومندوبًا لسوريا في جامعة الدول العربية، توفي 1976، ومُنح جائزة لوتس في عام 1978، أي بعد رحيله (ويكيبيديا).

اشتهر سامي الدروبي بموقفه الذي أبكى الزعيم جمال عبدالناصر حين قدم له أوراق اعتماده كسفير لبلاده بالقاهرة بعد انفصال الوحدة؛ حيث قال: "إذا كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم مستشرفا معاني الرجولة والبطولة، فإنه ليحز في نفسي أن تكون وقفتي هذه كأجنبي، كأنني ما كنت في يوم مجيد من أيام الشموخ مواطنا في جمهورية أنت رئيسها، إلى أن استطاع الاستعمار متحالفا مع الرجعية أن يفصم عُرى الوحدة الرائدة في صباح كالح من خريف حزين يقال له 28 أيلول، صباح هو في تاريخ أمتنا لطخة عار ستمحى، ولكن عزائي في هذه الوقفة التي تطعن قلبي يا سيادة الرئيس والتي كان يمكن أن تشعرني بالخزي حتى الموت أنك وأنت تطل على التاريخ ترى سيرته رؤية نبي وتصنعه صنع الأبطال".

 

نبيل نجم (العراق)

وكانت أبرز محطاته سفيرًا لبلاده بالقاهرة؛ حيث السفير نجم سفيرًا فوق العادة بكل ما تحمله الكلمات من مدلول ومعنى، بل كان وبشهادة الأشقاء بمصر، أبرز سفير اعتُمِد بمصر منذ عقود، بفعل نشاطه ونفوذه وسعة علاقاته، فقد كان لنبيل نجم حضور طاغ على مستوى القمة والقاعدة في بلده وبمصر وبسلاسة كبيرة.

 

السفير الدكتور بشار الجعفري (سوريا)

يُمثل د. بشار الجعفري ظاهرة دبلوماسية عربية وعالمية لافتة، بحضوره المميز وبديهته المتقدة وصفاته الفطرية الجلية، وقد لفت أنظار العالم بحضوره الطاغي ودفاعه المستميت عن قضايا بلده وأمته، فكسب قلوب محبيه واحترام خصومه على السواء، شخصيًّا شهادتي مجروحة بهذا الرجل لأنني أعتبره أسد الدبلوماسية العربية في المحافل الدولية وأفضل من يمثل الدبلوماسية الأممية بكل أبعادها.

رسالة من سفير عربي عراقي حُر يوضح فيها سبب مساعدته لشابين سوريين:

سعادة وكيل الوزارة المحترم

تحية الأخوة والزمالة...، وبعد

إنني أدرك تماماً الوضع الذي نحن عليه مع النظام السوري، وأنا كسفير ملتزم بكل اللوائح المعمول بها، وعلى دراية بكل ما يلزمني كسفير لدولة العراق، لكنني أحب أن أذكر الزميل العزيز أنني لم ولن أنسى أنني "عربي"، فخلال فترة شغلي الرسمي كسفير لم أفعل شيئا تجاه هذين المواطنين العربيين السوريين. لكن حين تنتهي ساعات العمل الرسمية أنا أعود مواطنا عربيا أحس أن كل إنسان عربي في قلبي ووجداني، وذلك الوقت الذي قضيته في الوقوف مع هذين الشابين كان وقتي وليس وقت العمل، والمال الذي صرفته عليهما كان من جيبي وليس من جيب السفارة فأنا يا زميلي العزيز موظف عند "عروبتي" قبل أن أكون موظفا عند حكومتي، وإذا كان ما قمت به من تصرف يقلل من سمعة وشرف العراق فإنني على استعداد لتحمل كامل المسؤولية بما في ذلك استقالتي فوراً.

دُمتم ودام العراق...،

--------------------------

قبل اللقاء: الدبلوماسية الحقيقية هي المرونة وليست الهشاشة، وهي الواقعية وليست الوقوعية، وهي التشبُّه بالوطن إلى حد التطابق، والاصطفاف إلى جانبه إلى الرمق الأخير.

وبالشكر تدوم النعم...،