فوزي عمار
عاش العالم سيادة النموذج الغربي الذي سيطر لفترة على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فعندما خرج مزهوًا الكاتب الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما أستاذ العلوم السياسية وأحد أهم مفكري المحافظين الجدد وأصدر كتابه "نهاية التاريخ"، قامت الدنيا ولم تقعد لهذا الكتاب الجدلي، الذي أراد به الكاتب الأمريكي الوصول إلى نتيجة مفادها سيادة النموذج الأمريكي للسياسة والاقتصاد في العالم؛ بل وحتى حضاريًا.
ولكن فوكوياما كان ينقل بوعي أو بدون وعي عن سورة المائدة والآية الكريمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا". (المائدة: 3).
بشَّر فوكوياما بنهاية التاريخ ولكن الأقرب إلى الحقيقة كان أن العالم يتجه إلى نهاية الجغرافيا وليس إلى نهاية التاريخ، وخاصة في العالم الغربي من أمريكا وكندا إلى الاتحاد الأوربي الذي يجمع معظم دول قارة أوروبا لم يعد للجغرافيا معنى. فتجد من يولد في لندن ببريطانيا وينتقل للعيش أو للتقاعد في أسبانيا أو اليونان، كما إنه لم يعد للشركات العابرة للقارات مقر رئيس فحيث جنة الضرائب هي أرضها. وترسخ مفهوم ما بعد الدول Post state، فأنت تنام في قطار من روما حتى كوبنهاجن أو وارسو ولا يوقظ مضجعك شرطي جوازات يبحث عن تأشيرة.
شهد التقسيم الطبقي الذي أسس له كارل ماركس قديمًا تغيرًا كبيرًا جدًا في هذا العصر، فعندما تحدث ماركس عن الوعي الطبقي كانت الشعوب تعيش في حالة تقسيم طبقي أفقي. فمثلا في فرنسا كان المجتمع ينقسم إلى عمال وأصحاب العمل والنبلاء، وكان تقسيمًا موجودًا في الواقع فعليًا مصحوبًا بالوثائق الدالة على ذلك، وليس تقسيمًا صحفيًا أو مزاجيًا مثل ما نشهده عندنا اليوم حين نصف طبقة بالبرجوازية؛ فلا يوجد شيء فعليًا على الواقع يسمى بالبرجواز، في حين كان ذلك فعليًا وبالوثائق الدالة قبل الثورة الفرنسية.
كل ذلك تلاشى مع عصر جديد عصر ما بعد الحداثة؛ حيث أصبح فيه التقسيم عموديًا وليس أفقيًا (من وجهة نظري)؛ بمعنى أن تجد طالبًا في درجة الدكتوراه وهي أعلى درجة علمية يعمل نادلًا في مطعم أو حامل حقائب في فندق، وهذه وظائف تنتمي إلى الطبقة العمالية التي كانت تسمى "بروليتاريا" في مرحلة محددة تاريخيًا.
اليوم هذا الطالب يعمل مُؤقتًا لكي يستطيع أن يدفع ثمن دراسته الجامعية وتخصصه الدقيق في الطب أو الفيزياء أو الاقتصاد أو القانون؛ ولم يعد مُمكنًا تصنيف هذا العامل أنه من طبقة "البروليتاريا" المسحوقة وهو قريبًا سيصبح أهم من صاحب العمل نفسه. هذا الطالب لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يُصنف بأنه من طبقة العمال المصنفة في عهد ماركس بأنها أقل حظًا اجتماعيًا من باقي الطبقات.
كل ذلك أحدث خلخلة في التقسيم الطبقي القديم؛ بل أصبح الطالب مالكًا للسُلطة من خلال المعرفة كما قال المفكر البريطاني عالم الاجتماع آلفين توفلر في كتابه تحول السلطة "المعرفة والعنف والمال مقومات السلطة الثلاثة".
كما إن التقدم التقني وشبكات التواصل الاجتماعي خلقت نوعًا من الاقتصاد يسمى بـ"الاقتصاد التشاركي"، وهو مثل مشاركة مالك السيارة وقت فراغه في عمل يُدر عليه دخلًا، بغض النظر إن كان صاحب السيارة متعلمًا أم لا! وهي تجربة شركة "أوبر" مثلًا.
كما أصبح بإمكان العامل أن يمتلك أسهمًا في الشركة التي يعمل بها، ولم يعد عاملًا فقط؛ بل عامل وشريك في نفس الوقت (وهي حالة جديدة لم تكن قائمة زمن التقسيم الطبقي الأفقي)، كما إن كثيرًا من المهن أصبحت تدار عبر "الروبوت" وليس العامل بما فيها قيادة السيارة، خاصة بعد التطور الرهيب في عالم الذكاء الاصطناعي.
كل هذه التغيرات جعلت علماء الاجتماع يصنفون هذا العصر بعصر الحداثة المتأخرة على رأي عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جودنز، عصر الحداثة المتأخرة ربط الإنسان بالتقنية التي حررته من سلطة الإقطاع تاريخيا ولاحقا سلطة الدولة.
ثورة الاتصالات قصة أخرى تصب في صالح نظرية نهاية الجغرافيا فلم تعد تحتاج إلى مقر قار بل فقط عنوان إلكتروني مجاني على أحد محركات الإنترنت مثل ياهو وجي ميل وهوت ميل، وغيرها.
كما أن تحويل الأموال وحجز الفنادق والتذاكر أصبح متاحًا عبر جهاز محمول ذكي في حجم كف اليد؛ بل وتصبح ممارسة الطب في ما يعرف بـTelemedicine شائعًا خاصة مع الجيل الخامس للاتصالات، والتحويلات الكبرى في التقنية المالية Fintech.
ذلك كان نتائج ثورة العقل في مجال الاتصالات واكبت تطلعات البشر من حرية تمامًا مثل نتائج انتقال المجتمع من مجتمع زراعي أقطاعي إلى مجتمع صناعي إبان الثورة الفرنسية التي حررت الإنسان. اليوم الثورة العلمية الثانية التي قضت على الجغرافيا وحدودها ليعيش العالم الحر في نهاية الجغرافيا والتي للأسف توحد المركز وتفتت الأطراف ولا عزاء للشعوب التي ما زالت تعيش خارج التاريخ والجغرافيا معًا.