بدر الشيدي
وكان الوداع جميلًا
كما شئت
والورد أحمر، أصفر
والنعش يمشي على مهلهِ
فوق أعناقهم..
(عبد العزيز المقالح)
*******
ما زلتُ أتذكرُ ذلك المقطع المصور الذي أرسله لنا الراحل عبد الله الجرواني قبل سنوات عدة، وقد ظهر فيه هو ومجموعة من الأطباء والممرضين وهو يقرع جرسًا في مستشفى بأمريكا؛ حيث يتلقى العلاج، مُبشرًا بالانتهاء من العلاج واستكمال جولة صعبة تكللت بالانتصار على المرض.
عاد بعدها إلى البلاد ومارس حياته الطبيعية، لكن بعد فترة ظهرت مُعاناته مع الألم من جديد، تبين لاحقًا أن ذلك القرع على الجرس الذي تتخذه بعض المستشفيات العالمية كتقليد للإعلان عن الشفاء التام من المرض، لم يكن صادقًا؛ فالمرض لم يرض بتلك الهزيمة، مُعلنًا أنه قادم بقوة متسلحًا، ليعاود الإغارة من جديد.
هكذا بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، ورحلة من العلاج والتطبيب، ظلَّ عبدالله الجرواني متعايشًا فيها مع المرض وسطر في ذلك أروع معركة في القوة والصبر، وكانت شكيمته رواية بحق يجب أن تروى، رحلة شاقة، رحلة ألم ومُعاناة لكنها رحلة تخللها الكثير من الأشياء الجميلة، ظلت فيها روحه المرحة الضاحكة تطبع الوقت والمكان. كان الانتصار حليفه في أغلب تلك الجولات إن لم يكن كلها. ظل خلالها متماسكًا قويًا، وظلت جولاته اللاحقة مع المرض سجالًا بينهما وكانت الغلبة دائمًا ومنذ سنوات تسجل لصالح عبد الله. وكان مقاوِمًا سلاحه الشجاعة والصبر والجلد، وكان طوال تلك الفترة لا يُعير اهتمامًا للمرض، وكان مُحبًا للحياة، لا تجده إلا باسمًا مبتسمًا، مقاومًا المرض بشتى الوسائل ومختلف السبل، كانت الابتسامة والروح المرحة سلاحه القوي في مواجهة ذلك المرض، حاضر النكتة لا ترتسم على محياه إلا علامات الرضا، وقلما تشاهده غضبان أو متضايقا من أمر ما.
في الآونة الأخيرة بدأ فيها ذلك المرض يضرب بكل ضراوة وفي كل الاتجاهات، وكانت المقاومة في ذروتها. كنَّا نراقب تلك المعركة بمزيد من الدعوات والابتهالات والصلاة ومتضرعين لله أن يُعجل بالشفاء التام، وفي نفس الوقت نتمنى ألا نسمع ذلك الخبر، وكنَّا نمني النفس بالخبر الجميل الذي اعتدنا دائمًا أن نسمعه منه، وهو يردد عبارة الحمد لله.
لكن الخبر الذي تمنينا ألا نسمعه أتى صباح يوم الثلاثاء 4 شوال 1444هـ الموافق 25 من أبريل 2023م، وكان صباحًا مختلفًا ومغايرًا، وبينما كان الجميع يستعد للعودة بعد انتهاء إجازة عيد الفطر، وقع الخبر الصاعق، رحل عبدالله الجرواني بعد صراع مع المرض.
ما إن انتشر الخبر حتى ضجت وسائل التواصل الاجتماعي وقد عبّر الكثير من أصدقاء الراحل عن صدمتهم وحزنهم العميق. كانت وفاته ورحيله صدمة ليس لي وحدي وإنما صدمة تقاسمها كل محبيه وأصدقائه تلك الصدمة التي أيقظت بالنسبة لي سيلا من الذكريات البعيدة الراقدة في البواطن، ذكريات تقاسمتها وإياه عبر سنوات طويلة، حكايات وقصص وضحكات تبددت في سماوات مختلفة، بين مسقط، ودمشق، والرياض، وجنيف والقاهرة، عبر محطات كثيرة، ندوات، مؤتمرات، ومناسبات أخرى كثيرة.
عندما تُفكِّر بحياة الراحل تدرك تمامًا أنَّ الأمر ليس بالإنجازات ولا بكثرة العطايا ولا بتراكم الجوائز ولا بالمؤلفات والكتب، ليس بهذه ولا بتلك، تبقى ذاكرة الإنسان ويبقى خالدًا في مُخيلة النَّاس بما تركه من قيم ومعانٍ. ترك عبدالله الجرواني قيمًا معنوية كان فيها يشبه الفرح، ويشبه السرور، وهو البهجة في أعلى تجلياتها، حياته وكأنها سيرة للفرح والسرور ومثل بحضوره الطاغي شخصية استثنائية لا مثيل لها، إذا كان المكان هو ما يؤسس الأشخاص والبشر وهو ما يضفي عليهم سلوكًا وتصرفاً، فهناك أشخاص هم من يؤسسوا للمكان بهجته وحضوره ورونقه، وهذا بالضبط ما ينطبق على الراحل عبدالله الجرواني، فعندما تكون في حضرته، فأنت في حضرة الفرح والبهجة والسرور، سعادة لا تنقطع وضحك لا يمل، فهذا الشخص وهبه الله حضورًا طاغيًا يتجسد ذلك في دماثة أخلاقه وقدرته العجيبة على اختلاق البهجة وتأثيث المكان بالفرح والسرور، فلا مكان للحزن في حضرته، كم من بسمة رسمها على وجوهنا وكم من ضحكات وفرح تبددت في فضاء المكان.
من المآثر الجميلة التي أذكرها عن الراحل أنَّه كان محبًا للحياة متمسكًا بكل تفاصيلها، خلوقًا، طيب العشرة، رفيقًا للسفر والترحال كأنه وطن بأكمله، محبًا لعُمان مدافعًا شرسًا عن المصالح الوطنية، ذلك ما رأيته وعشته معه في العديد من المحافل التي جمعتنا، وكان توجهه وطنيًا وعروبيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. هو الذي قلما تراه غاضبًا كما قلت، لكن ذلك الغضب يتجلى ويصل ذروته عندما يسمع خبرًا يخدش الأمة العربية في كبريائها، يتعكر مزاجه وتضطرب نفسه، كتب مرة بألم ووجع يرثي فيه حال الأمة العربية (نامي أيتها الأمة العربية الماجدة فما فاز إلا النوم… نامي واتركي العالم الكافر يُدير أقدارك ويصنع مستقبل أجيالك). كان يردد دائمًا أغنيته المفضلة (عروس الجنوب) لفيروز، وكان يحفظ قصائد محمود درويش ومظفر النواب، وأحمد مطر، يُردد دائمًا قصيدة (فلسطين عروس عروبتكم) لمظفر النواب.
ساهم الراحل طول عمله في العديد من الإنجازات التي خدم بها الوطن. كان من الجيل الذي درس الثانوية في مدرسة جابر بن زيد العريقة، أكمل بعدها دراسته الجامعية في المملكة المتحدة في تخصص العلاقات الدولية والعلوم السياسية، أول عهده بالوظيفة كان في محافظة مسقط رفقة المرحوم السيد سامي بن حمد، كتب عن هذه الوظيفة بحسابه في تويتر (كان لي الشرف أن أعمل مع سعادة السيد سامي في محافظة مسقط، وكذلك في رحلته الأخيرة للقاء ربه سيظل خالدًا في التاريخ والوجدان رحمه الله واسكنه فسيح جناته). (يذكر بأنه كان في الحادث الأليم الذي وقع في عام 1988م وراح ضحيته المغفور له السيد سامي بن حمد بن حمود البوسعيدي).
وعند رحيل السيد سامي آثر أن يترك المكان، لم يستطع الاستمرار في نفس الوظيفة في غياب السيد، كما قال، فعمل في مكتب الشرطة العربية والدولية (الإنتربول) وكانت له مساهماته في ذلك؛ حيث مثّل سلطنة عُمان في المقاطعة العربية لإسرائيل وكان أحد الأعضاء المؤثرين في اتخاذ الكثير من القرارات الاقتصادية العربية التي تخدم القضية الفلسطينية، وكان متحمسًا يحمله انتماؤه العربي الأصيل. في الجمارك؛ حيث كانت محطته الأخيرة كانت له مساهمات جليلة أيضًا تمثل ذلك في العديد من الإنجازات في العمل العربي والخليجي المشترك، فهو أحد المؤسسين للاتحاد الجمركي الخليجي، والاتحاد الجمركي العربي، والسوق الخليجية المشتركة، وشارك في العديد من جولات التفاوض واتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من الدول منها أمريكا والاتحاد الأوربي وغيرها من الدول والتجمعات الاقتصادية.
"أول الراحلين بصمت من المجموعة"، هكذا كتب أحد الأصدقاء في الواتساب، وكتب آخر إنه رحيل موجع وقاسٍ. بالفعل هو مفجع وقاسٍ، لكن لم يكن رحيلًا صامتًا. ولا أعتقد أن الصمت كان حليفه، ولم يكن في قاموسه، فهو الذي يملأ المكان بهجة وسرورا.
الذي عرف عبدالله الجرواني يُدرك تمامًا أنه ليس بوسعه أن ينساه، أو ينسى تلك الابتسامة والضحكة التي طبعت حياته ورسمت البهجة والسرور، كانت بحق حياته وكأنها سيرة فرح. رغم أنَّ الرحيل مشيئة الله في خلقه، إلّا أن ما نمنى النفس بأن حياة أخرى للراحل قد بدأت، وإن كنَّا لا نراه بيننا جسديًا، فهو باقٍ في نفوسنا وفي ذاكرتنا وهو بيننا لا يفارقنا.
في عصر يوم الثلاثاء وقبل أن تغيب شمسه، وفي موكب مهيب حضره حشد غفير من محبي وأصدقاء الراحل، وربما ذلك اليوم لن تنساه ولاية صحم ولن ننساه نحن، كنَّا في وداعه، وكان وداعه بما يليق به وبنفسه الطيبة، وداع يليق به وبصورته المطبوعة في قلوب محبيه ومن عاشره. في ذلك اليوم احتشدت أعداد غفيرة لتشييع الراحل إلى مثواه الأخير، وحمل نعشه على الأكتاف. وكان الوداع رغم ألمه كان جميلًا كما قال عبد العزيز المقالح.
أستعير عبارته هنا وأقول: "ستظل خالدًا في الوجدان والتاريخ".
ربي كما أسعدنا عبد الله الجرواني ورسم البسمة على وجوهنا، اجعله باسمًا مبتسمًا ضاحكًا في جنات النعيم، اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عنه.
لترقد روحك بسلام وطمأنينة...