د. بدر الشيدي
قبل عدة سنوات اقتربت من عمال نظافة، وجلست أتحدث معهم، فكرت أن أخفف عنهم، وطأة المهنة وحرارة الجو، أشياء كثيرة تحدثنا فيها عن بلدهم وعائلاتهم وغربتهم، لكني صدمت من مُعاناتهم بأنهم لا يقبضون راتبًا إلا قليلًا بضع ريالات لا تتعدى المئة ريال مقابل الشركة التي توظفهم تقبض الفارق وهو ما يتعدى ضعف راتبهم، ويعملون من الخامسة صباحًا إلى السادسة مساءً، ويسكنون في منطقة بعيدة لا يصلون هناك إلا في وقت متأخر منهكين متعبين يعدون طعامهم على عجل ليناموا لموعد الغد.
تذكرت هذه الحكاية وإنا أقرأ خبر تداوله الكثير من المغردين خلال الفترة الماضية على وسائل التواصل الاجتماعي خبر الإضراب الذي قام به عدد من العمالة الوافدة في إحدى المؤسسات الخاصة. ليس الخبر بحد ذاته هو الغريب. أغلب ردود الأفعال جاءت مُستهجِنة لهذا الفعل، بينما هناك فئة- وإن كانت قليلة- رأت فيه خلاف ذلك وأن لربما للعمال المضربين مطالب مشروعة لم تعمل الشركة على حلها. وهناك رأي ثالث يقول بحق الإضراب، ولكن ليسوا مع التخريب والتكسير الذي قاموا به العمال.
ورغم أن تلك ردود الفعل المختلفة حق للجميع ولا يخلو مجتمع مع هذا الاختلاف وهو حق مشروع، ولا يفسد للود قضية. لكن يكمن الاستغراب في أولئك الذين استهجنوا هذا الفعل وانبروا يدافعون عن فكرةٍ الحكومة نفسها لم تقلها؛ بل وألبسوه بمختلف الأوصاف وتعدد ذلك بين استهتار وتخريب وشغب والاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة وعدم احترام البلد وقوانينها وخطوط حمر تم تجاوزها و"يا غريب كن أديب" وكلام كثير...
وقد تبين لاحقًا- والله أعلم- أن أولئك المضربين يطالبون برواتبهم التي لم يقبضوها لعدة شهور، وما كان أمامهم إلا إيصال صوتهم بهذه الطريقة. ومهما يكن من أمر، تلك الأفعال مُستنكرة والتي رافقها العنف والتكسير. لكن انسداد الأفق وعدم تجاوب الشركات مع طلبات العمالة والموظفين وتمادي الشركات في هضم حقوق العمالة والقرارات التعسفية التي يتم اتخاذها بحقهم. وقد لا يجدون من ينصفهم.
لا نخفي تعاطفنا مع أبناء وطننا وأن نقف معهم ونُعبِّر عن مطالبهم تجاه ما يتعرضون له من عمليات تسريح من قبل الشركات، وهذا حق على كل مواطن التضامن والتعاضد مع أبناء وطنه. ولكن السؤال الذي نطرحه في هذا المجال، هل نحن نتعاطف مع العامل والموظف والضعيف والفقير بصفته الإنسانية المجردة، أم لأننا نتعصب له لأنه من بني جلدتنا؟! وفي هذا أتساءل هل هذا الاستهجان نابع من كون الذي قام به عمال أجانب وافدون أم الاستهجان للفعل نفسه واعتباره دخيلًا على المجتمع؟ والخوف من انتشار ثقافة الإضراب والاحتجاجات؟!!
هناك منطقة ضبابية تتسع وتتضخم ونحن أنفسنا عالقون فيها لا نستطيع أن نبرحها. إن خوفنا على بلدنا وتضامننا مع أبناء البلد يجب ألا يحرمنا من التعاطف مع الغريب الآخر الذي أتى يبحث عن لقمة عيشه. في المقابل، نتفق أن للبلد قوانين وأنظمة يجب أن تُحترم وتُصان، ونتفق أيضًا أن على المؤسسات الخاصة والعامة أن تُبادر هي وتكون قدوةً في تطبيق القوانين والأنظمة وإحقاق الحقوق للعمالة والموظفين. ففي كثير من الأوقات يجد الموظف أو العامل نفسه بدون رواتب، يعمل لمدة قد تتجاوز الشهور وتعييه المطالبة ولا آذان تصغي إليه، لا من الشركة التي يعمل بها ولا من الجهة الحكومية المعنية بالأمر؛ لذلك يجد نفسه وقد سُدَّ الأُفق في طريقه.
في إحدى جولات التفاوض لاتفاقية التجارة الحرة اشترطت الدولة الطرف في الاتفاقية إنشاء اتحاد عمالي وأن يكون منتخبًا بعيدًا عن التعيين وأن يُشرَّع حق الإضراب للعمال، وذلك من منطق أن لا يمكن أن تأتي الاستثمارات وتُضخ الأموال في المشاريع ويؤتى بالموظفين، دون أن يكون لهم حق في التعبير عن رأيهم والاعتراض على القرارات التي تهمُهم، وكذلك دون أن يكون لهم هيئة أو إدارة تمثلهم تدافع عن حقوقهم وتنقل وجهات نظرهم بصدق من قبل مُمثلين هم الذين يختارونهم. وكان المبرر الذي يطرحونه في التفاوض، هو: أيعقل أن يأتي مستثمرونا وشركاتنا لتستثمر في بلد لا تُحترم فيها حقوق العامل ولا تُصان، ولا يجد هيئة أو اتحادًا عماليًا يُعبِّر ويدافع عن مطالبهم؛ بل تعمل الدول بما تملكه من قوة أوراق تفاوضية الى فرض شروطها بما فيها تغيير أنظمة وقوانين خاصة في تلك البلد ولا تكتفي بوجود نصوص عامة في الاتفاقية تحميها.
كلنا يعلم أن البلد تبذل جهودًا مضنية لجذب استثمارات أجنبية وتعمل على الترويج لخلق بيئة استثمارية جاذبة، وقد تُرجم ذلك في قانون استثمار رأس المال الأجنبي، وفي العديد من الاتفاقيات الاستثمارية وغيرها ومنها اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية (2006)، ومؤخرًا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الهند (2025)، وقبلهما الانضمام لمنظمة التجارة العالمية وفتح الأسواق وغيرها.
إنَّ ذلك وبالتأكيد لن يتأتى إلّا باتفاق بين الطرفين، ومنها الموافقة على بعض الأمور التي قد يراها طرف ما من القرارات السيادية التي لا يجب التنازل عنها، بينما يراها الطرف الآخر ضمن متطلبات الاستثمار وخاضعة للنقاش والاتفاق عليها.
والقبول بالاستثمار الأجنبي بما فيه من عمالة وافدة هو قبول بثقافة هذا الآخر القادم للاستثمار ومن مبينها حق الإضراب والتجمعات والاحتجاجات وتكوين الاتحادات العمالية والجمعيات. وفي نفس الوقت المحافظة على مُقدَّرات البلاد وثروتها بما فيها حق المواطن في الوظيفة وحمايته من المنافسة غير الشريفة، أو منافسته في منافذ البيع والتجارة البسيطة، وإغراق البلد بالمنتجات الأجنبية وبأسعار تنافسية.
ولذلك نؤكد.. أن التوازن مطلوب بين فتح الاستثمار الأجنبي وحقوق المواطن، ومما لا شك فيه أيضًا أنَّ مصلحة البلد والمواطن هي الأولوية القصوى التي لا يختلف عليها أحد.
