الشورى.. نحو ثقافة سياسية مُغايرة

د. بدر الشيدي

الثقافة بمفهومها العام هي الثيمة والمعيار الحقيقي الذي يُعزى إليه تطور المجتمعات الإنسانية في شتى المجالات، ففي السياسة تمثل الثقافة السياسية لُبَ تطور الحياة السياسية، بدءًا من نظام الحكم؛ سواءً كان نظامًا ملكيًا أو جمهوريًا، وكذلك العملية الانتخابية والمشاركة، في صنع القرارات، ووجود مؤسسات ديمقراطية متطورة تمثل ذروة تطور الثقافة السياسية.

ومع اقتراب موعد استحقاق الفترة العاشرة لانتخابات مجلس الشورى العُماني التي ستجرى في الربع الأخير من العام الجاري، نتساءل حول مدى نجاعة الثقافة السياسية في بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية؟

تُبنى وتعرف الثقافة السياسية بحسب مقاربات علماء الاجتماع على مجموعة من القيم والمعتقدات والقواعد والآراء المفسرة والمترجمة لسلوكيات الأفراد ومواقفهم السياسية تجاه السياسة والسلطة وممارسة الحكم والولاء والانتماءات والشرعية والمشاركة داخل المجتمع الذي ينتمون إليه". وهناك ثقافتان في هذا المنظور، ثقافة سياسية رسمية وهي ثقافة الدولة والسلطة، وثقافة العامة غير رسمية، وهي ثقافة الافراد والشعب. فالثقافة السياسية بقدر ما هي مطلب للمجتمع، تعرفه على حقوقه السياسية والاجتماعية وكرامته، فهي مطلب كذلك وضروري للسلطة، تدعم وترسخ سلطتها، فهي بحاجة إلى سيادة ثقافة تتسم بالولاء للدولة والخضوع والرهبة والانتماء.

هل نجحت الممارسة السياسية المتمثلة في العملية الانتخابية في إيجاد ثقافة سياسية؟ نقول وبكل تجرد، إن العملية الانتخابية والتمثيلية أوجدت وخلقت بالفعل ثقافة سياسية (بغض النظر عن نوعيتها ونجاعتها) تكونت منذ الانطلاقة الفعلية للانتخابات في عام 1996م بإنشاء مجلس الشورى ليحل محل المجلس الاستشاري، وقد تكوَّنت ثقافة سياسية في المجتمع، تتألف من منظومة ومزيج متنوع من القيم والعادات والتقاليد والقيم الدينية والمذهبية والمستويات الاجتماعية والقبلية. وانعكست تلك الثقافة وطبعت تصرفات الأفراد وسلوكهم في المشاركة بالعملية الانتخابية. وعلى مدى سنوات ترسخت تلك الثقافة في المجتمع. لكن هل استطاعت أن تفضي إلى مؤسسات ديمقراطية، تعبر عن المجتمع وتطلعاته، تسمح بالمشاركة الفعالة في قضايا الرأي العام التي تهم الوطن والمواطن؟

من المسؤول عن بناء ثقافة سياسية حقيقية؟ يتقاسم الإجابة على هذا السؤال ويشترك في ذلك كل من المجتمع والدولة؛ فالدولة بما تملكه من وسائل وإمكانيات وضعت منظومة من القوانين والأنظمة التي أرست دعائم العملية الانتخابية التمثيلية، وتلك مهمة تحسب للحكومة ويعد تطورًا لافتًا في ترسيخ مبدأ المشاركة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة صاغت تلك القوانين والأنظمة وفقا لمتطلبات تراه هي مناسبة ويخدم مصالحها ودوامها، بغض النظر في مدى تطابقها مع المعايير الدولية المتعارف عليها، وبالتالي أوجدت ثقافة سياسية مؤسسية تعمل على ترسيخها، وفي الحقيقة قد أفرغت الديمقراطية والشورى من محتواه. فعندما تنظر الدولة إلى المجتمع على أنه لا يزال لا يعي ما الديمقراطية والحرية وانعكاساتها على الحقوق والواجبات، فإنها تتدخل لفرض مبدأ التدرج في منح تلك الحقوق ويتطلب ذلك فترات من الزمن، ليس لهذه الفترات وحدات قياسية زمنية، فتظل تلك الفترات مفتوحة بلا مدى.

يُوجِدُ المجتمع بدوره ثقافة سياسية تترسخ في أذهان الناس وتصبح هي المسؤولة عن مشاركته في العملية السياسية. فعندما ينظُر المترشح للعملية الانتخابية على أنها وسيلة توصِّله إلى مغانم شخصية وتفتح له الخزائن، مُستغلًا حالات العوز والفقر لدى البعض، فإنه لا يتورع من ارتكاب بعض الممارسات التي تتنافى مع كل الأعراف والأديان دون رادع. كذلك الشأن بالنسبة للناخبين، ومنهم من يرون في العملية الانتخابية ليست إلا فرصة لتحسين وضعهم الآني وحل بعض مشاكلهم، فيلجأون إلى التصويت للمترشح الذي يقف معهم في محنتهم أو الذي يحصلون منه على مقابل، بغض النظر عن صلاحية ذلك المترشح ومؤهلاته وإمكانياته. وبالتالي هذه الافرازات التي تتكرر وتتشكل دون ردع تصبح منظومة تكوِّن ثقافة سياسية تنعكس على الحياة السياسية في البلاد.

وعلى هامش ذلك، تتشكل فئة كبيرة داخل المجتمع وهم الصامتون الذين لا يشاركون في العملية الانتخابية، ليكوّنوا ثقافة سياسية من نوع مختلف وهي "ثقافة الرفض"، معتقدين بعدم الجدوى من وجود مجلس الشورى لأنه في الحقيقة لم يرتقِ إلى طموحات الشعب ولم يمثل ناخبيه بالشكل المطلوب، وابتعد كثيرًا عن قضايا وهموم المواطنين. وتتسع تلك الثقافة لتشمل فئات معينة من المجتمع كالمثقفين، وأصحاب المؤهلات والخبراء وغيرهم من التكنوقراط.

هل العملية الانتخابات تتوافر لها الضمانات المتعارف عليها كحرية الترشح والانتخاب، والشفافية، والمراقبة الفعالة لسير عمليات الاقتراع؟

عوامل كثيرة تحد من حرية الترشح والاختيار؛ منها ما هو ذاتي لدى المترشح والناخب كما ذكرنا لشعوره بعدم الجدوى من المشاركة في ذلك، ومنها ما هو انعكاس لثقافة المجتمع، كالعصبية والقبيلة والعشيرة والمناطقية والمذهبية والمكانة الاجتماعية، ووجود المال الذي يلعب الدور القوي والحاسم في تسيير عملية الانتخاب وتحديد سلوكيات الناخبين والمترشحين، فتخل تلك العوامل بمبدأ تكافؤ الفرص، وتؤثر على قناعات الأفراد وتقودهم لا شعوريًا إلى تلك الممارسات غير المجدية.

والمجتمع، مؤسسات وأفراد، يشاركون في ذلك أيضًا من خلال غض النظر والتجاهل عن ممارسات سلبية تشوب العملية الانتخابية. رغم أن هناك لجان رقابية تتشكل مع كل دورة انتخابات، إلا أن تلك الممارسات التي تطبع سلوكيات المترشحين خاصة، لا تجد من يُدينها ويقمعها. لماذا لا يكون هناك مراقبون محايدون في الانتخابات وتبدأ عمليات المراقبة منذ الوهلة الأولى لإعلان المُرشحين رغبتهم في الترشح، وتشمل المراقبة حتى سلوكيات المترشحين وتسلط عليهم الأضواء والمراقبة طوال فترة ترشحهم، وربما تُمدد إلى ما قبل ذلك.

إن وجود تلك الثقافة السياسية وترسُّخها بهذا الشكل لا يقود ولا يفضي بالتأكيد إلى مؤسسات ديمقراطية حقيقية تتطابق مع المعايير الدولية المُتعارف عليها، وتساهم في صناعة سيشاسة فاعلة وصحيحة قادرة على تحمل الأعباء والتعاطي مع الشأن العام.

والتطور الفني الذي يشهده نظام انتخابات مجلس الشورى من الناحية الفنية والتقنية قد لا يعكس بالضرورة حالة المجلس الحقيقية التي ظلت ومنذ تأسيسه يراوح مكانه، ولم تكن له مشاركة حقيقية في تمثيل الناخبين، وأن الثبات على نفس الأدوات والمحافظة عليها قد لا يعني بالضرورة النجاح، في المقابل يبقى التقدم والتطور رهين الحركة والتغير والملائمة، والابتعاد عن كثير من المفاهيم المؤدلجة التي بمرور الوقت تصبح عائقًا نحو التطور والتقدم، والتخلي عن تلك الخصوصية التي طبعت الحياة لسنوات طويلة وطبعت كل شيء في الحياة لدرجة أصبح لكل شيء خصوصية ينفرد بها، ومدعاة الخصوصية والتميز في الحقيقة ليست سوى وهم يسيطر على العقول ويجمِّد التفكير.

إنَّ وجود ثقافة سياسية لدى المجتمع والدولة بشكل مُغاير ومختلف بلا شك سوف تسهم في وجود حياة ديمقراطية وعملية انتخابية متطورة، تفضي إلى وجود مؤسسات ديمقراطية حقيقية ومجلس شورى قوي ذي صلاحيات واسعة، ليكون رافدًا وداعمًا ومساندًا لعمل الحكومة والسلطة التنفيذية، كما إن الدعوة إلى إيجاد ثقافة سياسية يشترك في إيجادها الدولة والمجتمع، قد يكون أملًا وطموحًا يُراوِد الكثير.