سوريا والعرب المتأخرون

 

بدر الشيدي

 

 

من شرفتي الدمشقية

أطل على جحيم أيامي الناعم مثل ذكرى بعيدة

أسمع الأخبار العربية

وأسمح لنفسي بالتخيل.

 

الشاعر سيف الرحبي جسد قدر العرب في الإطلال من أعلى الشرفات وسماع الأخبار والتخيل، وهذا هو بالضبط ما يحصل عند كل نائبة تلحق بنا. في الأحداث السورية يعود العرب إلى الوقوف على الشرفات يطلون من بعيد يراقبون المشهد.

أتذكر دمشق ولا تغيب عن بالي أيام كنَّا نتجول في شوارعها على روائح الياسمين الدمشقي وفي أزقتها وحواريها العتيقة، وأسواقها كسوق الحميدية والصالحية وباب تومة ومقهى هافانا، وفندق الشام ومسجد الأمويين، والسيف الدمشقي الذي يتوسط ميدان الأمويين وجبل قاسيون وأسماء أحببناهم محمد الماغوط ونزار قباني وسعد الله ونوس وخالد تاجا والكثير غيرهم.

السؤال الذي يشغل بالي هو لماذا يبتعد العرب عن دمشق، ولماذا لا تتقاطر الوفود العربية إليها؟ وهل لاقت تلك الحشود المجتمعة في ساحة الأمويين أو غيرها من الساحات والميادين من الدعم والمساندة من الدول العربية ما يليق بتضحيات الشعب السوري في سبيل نيل حريته والتحرر من النظام الظالم الذي جثم عليه لمدة تزيد عن نصف قرن؟ هل يهب العرب إلى سوريا والالتحام مع الشعب السوري ومباركته ثورته في التخلص من الحكم الظالم، أما ذاك فيبدو أنه ربما ضرب من الخيال؟ أسئلة كثيرة يحار المرء فيها.

مواقف الدول العربية من الأزمة السورية منذ انطلاق الثورة في عام 2011 تمثلت في ردة فعل مُختلفة ومُتغيرة. أما الآن وقد سقط النظام وانتصرت الثورة، فما هي حسابات العرب ومواقفهم تجاه ذلك؟

يتخذ أغلب المثقفين والمحللين العرب مواقف متضاربة ومتناقضة فكما هي العادة البعض منهم مع التحرر والخلاص من ربق الظلم والفساد ودكتاتورية السلطة، والبعض الآخر منذ البداية وضعوا أنفسهم في صفوف النظام وكرسوا أقلامهم وألسنتهم للدفاع عنه بحجة العلمنة والحكم المدني والخوف من الأسلمة، وهناك طبعًا الذين اختاروا المُراقبة والصمت.

الموقف العربي الرسمي باهت وضبابي، ولم يكن على مستوى الحدث العظيم الذي هزَّ المنطقة بأكملها، وكما العادة يتوارى العرب في مثل هذه الوقائع ويأخذون لأنفسهم أماكن قصية يراقبون منها وكلهم توجس وشكوك. وغالبًا يحضرون متأخرين عن الركب. مواقفهم تُبنى وتَتَخِذ سياقات مبنية على التوجس، وهم الذين عودونا أن أغلب رهاناتهم وقراءاتهم ليست دقيقة، لسبب بسيط؛ هو أنهم ليسوا ضمن اللاعبين الدوليين وليسوا من راسمي خطط ومستقبل العالم، هم الذين اختاروا ويختارون لأنفسهم دائمًا موقف المتفرج. ويبدو أنَّ الدولة العميقة في أغلب الدول العربية لم تقرر بعد كيفية التعاطي مع المستجدات في سوريا الجديدة، بالرغم من أن التغيير أصبح واقعًا ومنظور وملموس أيضًا وأنه لايُمكن الرجوع للوراء أو إرجاع عقارب الساعة وإرجاع نظام الأسد ومنظومته للمشهد مرة أخرى؛ إذ لا تزال الدولة العميقة هي المسيطرة على صانعي القرارات العربية الذين يعيشون نشوة انتصار الثورات المضادة وانتكاس ثورات الربيع العربي. عمليًا، جميع الأنظمة مهما اختلفت مسمياتها تبقى أكثر حنانًا على بعضها البعض، وهناك تعاطف خفي فيما بينها، ومهما اختلفت فيما بينها فإنها ترى أنَّ الشعوب العربية تأتي لاحقًا أو ربما لا تأتي بالمرة في الحسبان!

لا يتعدى قاموس ردود أغلب الدول العربية بين الترقب والمتابعة عن كثب والتوجس، وحتى الآن الموقف العربي الرسمي بشكل عام تمثَّل بين ترحيب حذر وترقُّب ومتابعة عن كثب والتوجس، والحكومات العربية تتوجس وتتريث في اتخاذ موقف من التغيير والسلطة الجديدة في سوريا، كما فضَّلت إرسال رسائل مُبطَّنة تختلف لهجتها بين تحذيرات وتوجيهات ومتطلبات وأمنيات، بالرغم من الرسائل الإيجابية التي ما فتئ النظام الجديد والقائد أحمد الشرع في بثها وطمأنة الجميع بأن سوريا سوف تتسع للجميع، فيما لا يزال الصمت السياسي والإعلامي يُخيِّم على المشهد ولا تزال الأسئلة المقلقة سيدة الموقف.

في المقابل، تتلقف دول العالم تلك الأحداث وتسارع إلى ترجمتها بما يخدم مصالحها وبالكثير من البراجماتية والواقعية، وأول ما تفعله هو جس النبض والاستكشاف. لذلك شهدت سوريا ومنذ سقوط بشار الأسد تقاطُر عدد من الوفود الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والاتحاد الأوربي وغيرها. وهذه الدول لا تتوانى عن اقتناص الفرص وبدأت وفودها تتقاطر على دمشق، بينما العرب يقفون متفرجين ينتظرون ويراقبون ما ستؤول اليه الأوضاع، أو بالأحرى الإشارة التي سوف تأتيهم من جهات أخرى غير عربية تُطمئِنهُم وتقول لهم اذهبوا!

الدولة العربية الوحيدة التي بادرت إلى إرسال موفدين للشرع وقررت إعادة فتح سفارتها هي قطر. مع الملاحظة أن سلطنة عُمان لم تُغلق سفارتها في دمشق وظلت تعمل ترسيخًا لعُرف سياسي يقوم على فتح قنوات التواصل مع الجميع لخدمة الشعوب العربية في ذلك.

مواقف الدول العربية مختلفة وإن تشابهت في العموم، وظلت بعيدة عن التغير في سوريا، لكن البادرة الوحيدة التي سمعنها عنها هي لقاء لجنة الاتصال العربية في مدينة العقبة الأردنية، ولم تكن إلّا تحت مظلة أمريكية بالطبع، والتي خرجت ببيان لا يختلف عن الكثير من البيانات الباهتة؛ مما حدا بالكثير من النشطاء والمفكرين والسياسيين السوريين في بيان العقبة قراءة نوع من الوصاية التي لا تليق بالسوريين بعد التضحيات الكبيرة التي قدموها لنيل حريتهم.

ورغم ذلك الصمت العربي والسكوت، بدأت تتشكل في الأفق ما يُشبه المحاور العربية في التعامل مع الوضع، محور عربي يُريد من سوريا الجديدة أن تنخرط في عملية تطبيع مع الكيان الصهيوني، وهذا المحور مدعوم من أمريكا وإسرائيل وغيرها من الدول الأوروبية. وضمن هذا المحور دول تتخوف وترتعد من عودة الإسلام السياسي إلى السلطة وتعمل بكل ما أوتيت من قوة على إفشاله على غرار ما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن، ولا تريد نظامًا مُزعجًا يُثير قلقها، ولا يكون مصدر تهديد لها؛ بل متحالف معها. وشرعت هذا الدول في تحريك آلتها الإعلامية وكتائبها الإلكترونية وشرعت في حياكة الدسائس والمؤامرات حيال ذلك، وتريد اعادة تجربة الثورات المضادة التي أفشلت ثورات الربيع العربي مُتوجِّسة من الحكم الإسلامي، وتعمل على شيطنة الثورة السورية ورجالاتها ورموزها، بداية من التشكيك في أصول أحمد الشرع (الذي كان معروفًا باسم أبو محمد الجولاني)، وقد تمادى البعض في إرجاع أصوله إلى اليهودية والصهيونية وتعاونه مع إسرائيل، والتخويف من التوجهات الإسلامية للثورة، والتخويف من بُعبع الإخوان المسلمين. وقد تعددت السهام الموجهة للتغيير في سوريا.

وهناك محور يريد من سوريا استنساخ النموذج التركي في إدارة الدولة على الطراز الإسلامي المنفتح الحضاري البراجماتي.

البعض ينظر لسوريا على أنها كعكة أو ثمرة بدأت في النضج وحان وقت قطافها، وبدأت في المناكفة بين بعضها في الاستحواذ على حصتها من هذه الكعكة بغض النظر عن مواقفها تجاه النظام السابق. وهناك مجموعة أخرى من الدول العربية وهي الأغلبية وأكثر ما يُقال عنها أنهم مُتفرجون وصامتون، ولا يعنيهم من يكون في قصر الشعب ويحكم سوريا.

الخلاصة.. أتمنى أن ينتبه العرب إلى ما يُحاك ضدهم دولًا وشعوبًا، وأن ينخرطوا في العالم بشكل مختلف، وأن الاتحاد والتماسك والديمقراطية والحريات هي الضمان الوحيد لبقاء هذه الأمة صامدة قوية. وما نتمناه نحن الشعوب وبعيدًا عن السُلطات الرسمية أن يعود العرب إلى سوريا وتعود سوريا إلى العرب، بوجهها العربي كقلعة عربية شامخة.

الأكثر قراءة