ذكريات الكشافة (1)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

يُعد اللورد البريطاني بادن باول أول مُؤسس للحركة الكشفية في العالم، فقد استعان هذا الرجل في عام 1907، بعد أن حدث حصار على منطقته من قبل عصابات "البوير" بشباب المنطقة للتخلص منهم وانتشرت من بعدها هذه الحركة إلى دول العالم حتى أصبح عدد منتسبيه اليوم على مستوى العالم يفوق 40 مليونًا.

وتأسست الحركة الكشفية العربية بعد هذا الحدث بسنوات قليلة؛ ففي عام 1913 أقيم أول مخيم كشفي عربي بمدينة الإسكندرية في مصر. وفي عماننا الحبيبة تأسست أول فرقة كشفية في العام 1939 في المدرسة السلطانية بمسقط، إلّا أنها لم تنتشر خارج نطاقها لعدم وجود مدارس في عمان آنذاك.

لكن العام 1975 يمثل التاريخ الحقيقي لانطلاق الحركة في عُمان بإصدار السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مرسومٍ سلطانيٍ بإنشاء هيئة الكشافة والمرشدات التي تحوّلت بعد ذلك إلى المديرية العامة للكشافة والمرشدات تتبع لوزارة التربية والتعليم، وفي العشرين من نوفمبر 1983 في العيد الوطني الـ13 للسلطنة نُصِّب المغفور له بإذن الله السلطان قابوس كشافًا أعظم وأصبحت هذه المناسبة يومًا سنويًا تحتفل به كشافة ومرشدات سلطنة عمان

تحتفل كشافة عمان هذه الأيام بالذكرى السنوية الـ39 وقد أصبح منسوبو الحركة فيها يفوقون العشرين ألفًا.

الحركة الكشفية حركة تطوعية تربوية تقوم على مبادئ ثلاثة هي: الواجب نحو الله، الواجب نحو الذات، الواجب نحو الآخرين؛ فالكشافة توجه الشباب أخلاقيًا وفكريًا وثقافيًا.

وفي محافظة ظفار تأسست أول فرقة كشفية في المدرسة السعيدية بصلالة التي درست فيها منذ بداية عصر النهضة 1970، إلّا أن نشاطها كان لا يتجاوز نطاق أسوار المدرسة أثناء فترة الدوام المدرسي. وفي العام 1974 تقرر أن تشارك كشافة ظفار في المخيم الكشفي العام الأول لكشافة السلطنة بالعاصمة مسقط.

وتشكل الفريق المشارك من المدرسة السعيدية سريعا وأعدت له العدة لتهيئته للمشاركة في هذا الحدث الأول من نوعه على مستوى السلطنة وأطلقت الصيحة الكشفية "كشافة ظفار.. قوة ورجولة"، وتحمس الشباب لتمثيل منطقتهم خير تمثيل بروح التنافس المناطقي البريء بين أبناء البلد الواحد والمنطقة الواحدة المعروف بين الشباب وهو يؤتي ثماره في التحفيز والصقل للإجادة "وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون".

كان السفر إلى مسقط جوا بالطائرة وكان مُعظمنا إذا لم يكن كلنا لم يركب طائرة من قبل وهذا كان لوحده شعور جميل بالمغامرة يضاف إلى شعورنا بلقاء شباب من معظم مناطق السلطنة والأهم من هذا وذاك أننا سنذهب إلى عاصمتنا الحبيبة مسقط والتعرف عليها ومشاهدة تلفزيون عمان الملوّن من هناك الذي بدأ بثه هناك في هذا العام ولم يكن قد وصل إلينا بعد ويعتبر في وقتها من ضمن عدد قليل من التلفزيونات العربية الملونة.

مزيج من المشاعر المختلطة يقودها الشعور العام بالارتياح، والسعادة بدخول مرحلة الشباب والرجولة من أوسع أبوابها.

لم يشترك أي منِّا في معسكر كشفي خارجي من قبل، لذا قرر المشرفون إقامة معسكر تدريبي خارجي لنا لمدة يومين وقد اختيرت منطقة تعتبر بعيدا نوعا ما عن وسط المدينة وهي منطقة جميلة تقع على شط بحر العرب بين منطقتي البليد والدهاريز يحيط بها بستانيين من نخيل النارجيل تسمى "الخندق" وهي نفس الموقع الحالي لفندق كراون بلازا (هوليدي إن سابقا) الذي كان أول فندق تأسس في المحافظة. وتم نقلنا من مطار صلالة إلى مسقط على دفعتين كل يوم دفعة على متن طائرة من طائرات سلاح الجو السلطاني العماني وكان دوري في دفعة اليوم الثاني.

كنا لأول مرة نشاهد الطائرات عن قرب، أوصلتنا حافلة المدرسة إلى سلم الطائرة، وقد كانت طائرة عسكرية متوسطة الحجم ذات مروحتين، لم يكن بها كراسي ثابتة بل عبارة عن سيور بلاستيكية وحبال سميكة على شكل شباك مطوية ومثبتة على جوانبها، فقد كانت على مايبدو مخصصة للغرضين نقل الجنود وشحن المعدات العسكرية حسب الحاجة.

كان مدرج أرضية المطار العسكري القديم (المحطة) في صلالة قد أصبح مسفلتا، عندما تحركت الطائرة على المدرج استعدادا للإقلاع أصبح لصوتها هدير ذكرني بأغنية قديمة لشاعر الغناء الظفاري الراحل جمعان ديوان:

ساوينا محطة في جرزيز

جمع الناس فيها محتاره

 

إذا طارت سمعت لها دويه

وإن حطت ساوت عصاره

 

بامشي حبيبي في موتر

ياصانع صنع لي طياره

هذه القصية المغناة التي انتشرت في الخمسينات من القرن المنصرم بعد إنشاء مطار القاعدة العسكرية بصلالة والذي كان يطلق عليه محليا مسمى (المحطة) ورسميا (R F) وهو مختصر "رويال فورس" الإنجليزي تمت ترجمته حرفيا للدارجة الظفارية (محطة آر إف أو الآريف).

تحقق لي في هذا اليوم لأول مرة أن أسمع صوت هذا الهدير لمحرك الطائرة وهي تقلع (الدويه) حسبما أجاد الشاعر الفنان في وصفع أما مشاهدة العصارة (غبار يشبه إعصار الرياح) فلم نشاهده بالطبع لأن المدرج قد أصبح مسفلتا ولم يعد ترابيا كما كان في الخمسينيات لتحدث الطائرة خلفها وهي تهبط هذه العصارة كما وصفها وكما كانت سابقا، كنا نترقب رؤية بيوتنا من الجو، إلا أن وجود المقاعد على الجوانب جعل النوافذ خلف رؤوسنا ولم نتمكن إلا من الرؤية من خلال النوافذ المقابلة على الجانب الآخر ومع ذلك حددنا المناطق على الأرض بوضوح، لم تكن المناطق حينها متصلة عمرانا كما هي عليه اليوم وتمكنا من تحديد المناطق الثلاث بوضوح بل وحتى البعض أشار إلى بيته، كنا نودع نؤشر إلى الأرض مودعين وكأنهم يروننا، حتى توالى ارتفاع الطائرة تدريجيا، شدتنا مناظر البحر من الأعلى الذي أخذ يتسع أفقه وظهر لنا كأنه بلا نهاية وكذلك شريط أشجار نخيل النارجيل الممتدة على طول الشاطئ وقد كانت كثيرة وكثيفة ومتصلة من عوقد غربا إلى مزرعة أرزات شرقا، على ما يبدو أن الكابتن قائد الطائرة بعد أن عرف أن ضيوفه اليوم كلهم طلبة وكشافة ولاحظ شغفهم استمر بالتحليق بالطائرة بدءًا من عوقد على مستوى منخفض جدا وعلى طول امتداد الشاطئ حتى يمكنهم من الرؤية.

هبطت طائرتنا بمطار السيب (سابقا) كان في انتظارنا حافلة نقلتنا منه مباشرة إلى مقر مخيم عمان الكشفي بمنطقة المرتفعة، كان شارع قابوس الممتد من المطار إلى مسقط ذو مسار واحد وكان يمتد كالشريط إلى مطرح ولا تكاد حتى تدخل إلى روي أن تلمح أي حياة تذكر سواء بعض البناء المتفرق هنا وهناك. انحرفت بنا الحافلة يمينا إلى طريق ترابي بمنطقة مرتفعات الأنصب مقر المعسكر الكشفي ولم نتمكن من رؤية أي شيء في مسقط كما كنَّا نتوقع!