أنور الجندي.. الكاتب والصحفي الموسوعي (1)

 

عبد الله العليان

يُعد الكاتب الصحفي والأديب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي (1917ـ 2002)، من الكُتّاب العرب البارزين منذ النصف الأول من القرن الماضي.. وُلد الأستاذ أنور الجندي عام 1917 بمدينة (ديروط) بصعيد مصر، وهي واحدة- كما يقول د. توفيق الواعي في بحثه عن الجندي- "من أجمل بلاد الصعيد لما تتمتع به من مزايا جميلة؛ حيث تأتيها روافد نهر النيل من 3 روافد".

تربى أنور الجندي في بيت علم ودين، فجده لوالدته، كان قاضيًا شرعيًا، ووالده كان يشتغل بتجارة الأقطان، وكان أيضًا مُهتمًا بالثقافة ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية. حفظ الأستاذ الجندي القرآن الكريم في كُتَّاب القرية، وتعلم الكتابة والقراءة، والأساسيات التي يتعلمها الأطفال في مدارس الكُتّاب، ثم حصل على الابتدائية في ديروط، ثم حصل على الثانوية العامة فيها. وكان متفوقًا في دراسته وأسهمت القراءة الواسعة في موهبته الكتابية بعد ذلك.

ويذكر الباحث والناقد د. حلمي القاعود في كتابه "أنور الجندي.. حياته- أدبه- فكره"، أنَّ والِد أنور الجندي "رتّب له للعمل بوظيفة في بنك مصر، ثم واصل دراسته أثناء عمله، والتحق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في الفترة المسائية ليدرس الاقتصاد وإدارة الأعمال، إلى أن تخرج بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية". وكانت حياة الجندي هادئة بطبيعته، البعيدة عن الظهور والأضواء، بعكس الكثير ممن يعمل في الصحافة، ولذلك اهتم بالتأليف بشكل أكبر، وكان لا يُطالب الصحف التي يكتب بها مقابل كتاباته، وفي هذا الأمر هناك حالات كثيرة تحدث عنها البعض، كما أنه يساعد من ظروفهم لا تفي باحتياجاتهم المعيشية.

وقد تعرفت على كتابات ومؤلفات الأستاذ أنور الجندي، في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكنت آنذاك في المرحلة الابتدائية، ثم الإعدادية من خلال مكتبة صلالة التي تقع بالقرب من المدرسة الابتدائية بالحصن، ثم بعد ذلك في مكتبة العائلة، التي كانت تأتي بكتب عديدة لكبار الكتاب والباحثين العرب، إلى جانب الكتب المختلفة، ومنها: المؤلفات النقدية والأدبية لأنور الجندي مثل (خصائص الأدب العربي)، و(أضواء على الأدب العربي المُعاصر)، و(معالم الأدب المعاصر) والتي بلغت 17 مجلدًا، و(الفصحى لغة القرآن)، وكتاب (جيل العمالقة)، و(الثقافة العربية.. إسلامية أصولها وانتمائها)، و(الطريق إلى الأصالة والخروج من التبعية)، كما إن له العديد من الموسوعات منها: (الموسوعة العربية الإسلامية) أحد عشر مجلدًا، و(معلمة الإسلام) مجلدان، و(مقدمات في العلوم والمناهج) في 10 مجلدات، إلى جانب مئات المؤلفات المختلفة في قضايا الفكر والثقافة  والمعارف الموسوعية التي كانت مدار اهتمامات هذا الكاتب والأديب والمفكر.  

وعندما حصلت على منحة في مصر في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ومع إقامة نادي الطلبة العُمانيين بالقاهرة معرضًا للكتاب، اقتنيتُ العديد من كتب الجندي، لا سيما الكتب الموسوعية، ودار بيني وبين أحد الطلبة العمانيين، أن نزور الأستاذ الجندي- رحمه الله- في منزله، من باب الإعجاب بمُؤلفاته واهتماماته الفكرية والأدبية، لكن الظروف لم تسمح لنا، فأنا طالب في كلية الحقوق، وزميلي طالب في كلية الطب، ولم نحظ بمقابلة هذا المفكر الموسوعي؛ فالظروف الدراسية حالت دون ذلك.. لكنني مع ذلك بقيت في تواصل مع كتبه؛ سواء في مقالاته الصحفية، أو مؤلفاته التي كنت اشتريها في معارض الكتاب بالقاهرة، أو في المكتبات. والجندي- رحمه الله- غزير الإنتاج في كل القضايا التي تناولها في مؤلفاته الفكرية، والدينية، والسياسية، والأدبية، وتجاوزت مؤلفاته ما يزيد على 200 كتاب، ناهيك عن الرسائل الصغيرة، وهي عبارة عن سلسلة من الموضوعات التوجيهية في الفكر والأدب والثقافة.

بدأ الأستاذ أنور الجندي رحلته مع الأدب والفكر، في مرحلة مبكرة- كما يذكر د. توفيق الواعي- إذ كان مشوار الكتابة في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة التي كان يُحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1933م، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فكتب مقالة رصينة تقدَّم بها وأجيزت للنشر، وبقول الجندي: "ما زلت أفخر بأني كتبت في أبولو وأنا في هذه السن 17 عامًا، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف".

ويُعد عام 1940 علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي، وذلك عندما قرأ مُلخصًا عن كتاب "وجهة الإسلام" لعدد من المستشرقين، ووجد أنَّ هناك مخططًا للتغريب، ويصف ذلك بقوله: "وبدأت أقف في الصف: قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، غير أني لم أتبين الطريق فورًا، وكان عليّ أن أخوض في بحر لُجي ثلاثين عامًا.. كانت وجهتي الأدب، ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق". والذي يقصده الجندي هنا، الظروف التي كانت تعيشها مصر آنذاك إبان الاستعمار البريطاني، ويريد أن يسهم في الكتابة ضد هذا المحتل البغيض، لكنه مع ذلك انطلق في الكتابة في هذا الجانب بتدرجٍ، وواجهته المصاعب في هذا الأمر؛ منها حتى السجن، بسبب إصداره كتابًا يهاجم الاحتلال والدعوة لمواجهته.

كانت رحلة الأستاذ أنور الجندي، وتكوينه الفكري، تستحق التذكير لمن يُريد كيف حدد مثل هؤلاء العمالقة في الفكر لأنفسهم الوقت الملائم للكتابة والتأليف- كما يقول د. حلمي القاعود- من خلال الجهد الشخصي في تثقيف ذاتهم، والتزود بالمعرفة بلا كلل أو ملل وبالصبر الدوؤب: "بحيث يمكن القول إن أنور الجندي ثقَّف نفسه بنفسه إلى حد كبير، وإن كان الأمر يتجاوز  ذلك إلى عناصر أخرى، منها عمله الصحفي، ولقاءاته بمجموعة من الشخصيات المهمة على امتداد حياته وقراءة أعمالهم  الفكرية والأدبية، وتأثره بآرائهم، ثم طبيعة الأحداث التي مرَّ بها الوطن منذ الثلاثينات (من القرن الماضي) حتى رحيله في أوائل القرن الحادي والعشرين، فضلًا عن مشاركاته في الحياة الأدبية والفكرية على امتداد العالم العربي، وما تثيره هذه المشاركات من إشعال جذوة القراءة والبحث، والإضافة المعرفية".

ومن هذه المنطلقات الذاتية والرغبة في العلم والمعرفة، اهتم الأستاذ أنور الجندي في مسيرته الفكرية، بالقراءة والبحث في أمهات الكتب لاستخراج المعارف بالبحث الدائب، فيقول في مذكراته التي كتبها بخط يده: "كنت أقرأ ما يتيسر من هذه الكتب دون الإحاطة الكاملة بما تحتويه، وكان لذلك أثره البعيد في تكويني الإنشائي والفكري، حتى لقد أقدمت على إلقاء محاضرة عن الأدب العربي الحديث أثناء دراستي الابتدائية، كان لها ردود فعل غريبة، إذ تعذر على مستمعيها أن تكون من عملي، ولذلك عمد بعضهم إلى إجراء البحث عن مصادر هذه المحاضرة، وقد علمت ذلك من أوضاع الغرفة التي أسكنها، إذ عدت ذات يوم فوجدت آثارهم في درجي وأوراقي. فقد قدروا أن المحاضرة منقولة لا محالة؛ لأنَّ أسلوبها الأدبي فوق طاقة تلميذ من تلك المرحلة، فأرادوا التيقن من ذلك".

وهذا يُبرز أنَّ الجندي بذكائه منذ طفولته، أصقلته قراءته ومطالعاته ومنحته وعيًا ثاقبًا للفكر والأدب، ومن خلال اقترابه من الباحثين والمفكرين في عصره، الذين يعدون من كبار الأدباء والعلماء والمؤرخين، فيقول في حديثه للباحث والكاتب السوري محمد المجذوب: "لقد قابلت عشرات من أعلام الفكر والكفاح أثناء رحلاتي في البلاد العربية، وتابعت دراسة الكثيرين من أعلام الإسلام المعاصرين، أمثال شيخ العروبة أحمد زكي باشا، وأحمد تيمور، وشكيب أرسلان، ومصطفى صادق الرافعي، وحسن البنا، وعبد العزيز الثعالبي، وعباس العقاد وطه حسين، وآخرين". لكن البداية القوية لأنور الجندي كانت الأدب والنقد وهي الفترة الخصبة في مصر في ذلك الوقت.. وهذا سيكون له حديث آخر.