الولاء البيئي.. مصطلح أم واقع؟

 

علي بن سالم كفيتان

مهما عصفت المدنية بالإنسان وأخذته بعيدًا عن بيئته البكر وفطرته البشرية على حب اللعب في الوحل وتسلق الأغصان والانزواء لساحات الهدوء والدعة والاستماع لهمسات الأرض وزفراتها أحيانًا، يظل الإنسان هو ذلك المخلوق العجيب الذي خلقه الله من تراب، ويعود إليه ومن هنا يُمكننا معرفة قدر الارتباط الأزلي بينه وبين التراب والأشجار والأنهار والسماء والكواكب والمطر والريح والشمس والقمر والحيوانات وغيرها من مُفردات الطبيعة التي أبدعها الخالق جلت قدرته لذلك ولد الولاء البيئي الفطري مع الإنسان.

وتزخر الطبيعة بمنافع كثيرة لا يعلم الإنسان إلا القليل منها؛ لذلك يعكف علماء البيئة والعلوم الطبيعية على محاكاة المخلوقات ليستنبطوا قدرة البقاء والاستشعار والاتصال وزيادة الإنتاج وغيرها من المنافع التي لا حصر لها. وقد لفتت انتباهي الأوراق التي تقدمها الطبيعية كدفاع عن نفسها أمام الاستخدام غير المستدام لمواردها، فعندما تختفي الأنواع الأساسية؛ سواء أكانت أشجارا أو شجيرات أو أعشابا أو حتى حيوانات أو حشرات أو طيورا أو غيرها عن المسرح البيئي، تظهر أنواع أخرى تعمل على تغطية ذلك النقص. ومن عجائب الله ولطفه أن تلك الأنواع لا يستهلكها الإنسان أو الحيوان في دورة غذائه، فتعمل على تغطية مساحات كبيرة من الأرض والانتشار بشكل ملفت؛ فتحافظ على تماسك التربة ورطوبتها، وتضمن لها حقبة إراحة إلزامية لا يستطيع الإنسان معها التدخل بشكل مباشر. ومن هنا ظهر مصطلح "الأنواع الغازيّة"، وأخذ بُعدًا كبيرًا في مختلف بقاع الدنيا، وفي الغالب من دفع بهذا المصطلح للوجود هم المزارعون في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، فأصبح شائعًا؛ حيث تعمل ثقافة الميكنة الزراعية طوال الوقت لإنتاج ملايين الأطنان من المحاصيل الزراعية والحليب والمنتجات المصاحبة مثل تربية الدواجن والأنواع المحورة جينيًا، بهدف الحصول على أكبر إنتاج في أقل فترة زمنية ممكنة، وفي الحقيقة يؤكد علماء البيئة أن جشع الإنتاج هو ما أوجد هذا المصطلح ودفع به إلى الواجهة.

ومن أوراق الطبيعة كذلك ما يُعرف بالأعداء الطبيعيين، فكل نوع خلقه الله على هذه الأرض له عدو طبيعي، يحد من انتشاره خارج مستوى التوازن البيئي، وقد يغيب هذا المصطلح أمام التوجه الجامح لمصطلح الأنواع الغازية، فيتم اللجوء لخطوات يغلب عليها العلاجات الميكانيكية على حساب الدراسات المتعمقة للأنواع ومعرفة سبب انتشارها، ومن هم الأعداء الطبيعيون الذين اختفوا عن الساحة وافسحوا المجال لأنواع أخرى، وهل هذا الانتشار سلبيًا أم أنه في إطار إعادة التموضع البيئي للنظم؟! هذا مصطلح جديد ظهر مؤخرًا وأجازه بعض العلماء، وتعد المكافحة الحيوية هي الأجدى على المدى البعيد، فما قد نراه اليوم ضارًا قد نجده غدًا نافعًا استنادًا للدراسات العلمية، ومن هنا يجب التريث في إطلاق مصطلح الأنواع الغازية؛ فهناك الكثير من المعالجات التي قد تأتي من خارج الصندوق مثل القيام بدراسات للاستفادة من انتشار أنواع بعينها على حساب أخرى وابتكار حلول علمية قليلة التكلفة للسيطرة عليها في إطار منظمومة التوازن البيئي.

يجب أن لا يكون ولاؤنا البيئي عاطفيًا؛ بل إنسانيًا بحيث نعتبر كل ما يتضارب مع مصالحنا الآنية هو السبب في فقر نُظُمنا البيئية، وفي الجانب الآخر، نقوم بتدمير آلاف الهكتارات من بيئتنا الطبيعية بسلوكيات غير مستدامة. إن هذا التناقض يعد سلوكًا انتهازيًا بحتًا يتعارض مع الطبيعة البشرية التي فطرها الله على التعمير لا الخراب، وقد يكون من الصعب إقناع متخذ القرار بصدقية النوايا التي تنمو في مثل هذه الظروف؛ لأن ما يراه ينافي الواقع أحيانًا، إلا أن مبدأ الإصلاح يظل قائمًا، ولكنه لا يترسخ إلا بولاءٍ بيئيٍ حقيقي للأرض وبشراكة حقيقية تقوم على التضحية ببعض المكاسب أحيانًا.

وتغيُّر نمط العيش يتطلب تجديد نظرة التعامل مع النظم البيئية بهدف الحفاظ على ديمومتها، مما قد يتطلب إدخال أنماط واستخدامات غير مألوفة بهدف الانتفاع منها وبناء فرص واعدة لأبنائها، وقد يتعارض ذلك أحيانًا مع نظم العيش التقليلدية التي لم تعد متوائمة مع الحاضر والسؤال هنا: كيف نوفِّق بين الطرفين لبلوغ ولاء بيئي حقيقي؟

ونقول في الختام... الفرص ما زالت مواتية للتصالح مع أنفسنا ومع بيئتنا عبر الحلول المستدامة، ومبدأ بناء الحلول المتكافئة بين أولويات الحماية وطموحات التنمية والعيش الكريم.