د. عبدالله باحجاج
استغرق التفكير في عنوان هذا المقال وقتًا طويلًا حتى استقررتُ عليه، رغم أنَّ العنوان الذي كنت أميل إليه هو "هل انتهت الدولة العميقة؟"؛ فالمؤسسات المُتجذِّرة التي كانت مُؤثِّرة في صناعة القرارات والاستراتيجيات والسياسات، لم يعُد لها تأثير أمام جنوح النيوليبيرالية المالية والاجتماعية، والتقدُّم المُذهل في التقنية؛ مما يُلقي بظلاله على ركائز الدولة العميقة وعلى شعبيتها الاجتماعية، وقد يُصبح واقعها الداخلي مُهيأً بسهولة للاختراقات التقليدية (كالتجسس والتجنيد) أو المعاصرة (كالحروب السيبرانية)، ولنا في الحالة الإيرانية الأخيرة ما يُمكن أن نبني عليه، ونُحذِّر منه كدروس لكل دولة في المنطقة.
وما حدث في إيران من اختراقات داخلية بُنيوية وتراكمية في مُجمل نطاقها الجغرافي والديموغرافي، وعلى كل مستوياتها الفوقية والتحتية، ومنذ عدة سنوات، يُدرَّس استخباراتيًا وأكاديميًا؛ لأنها غير مسبوقة تاريخيًا من حيث الحجم والماهية واستحداث أساليب جديدة، ومن ثم النتائج التي لم تكن لصالح الدولة العميقة. فقد وقفتْ مُتفرجةً على تفكيكها من الداخل طوال تلكم السنوات دون أن تكتشفها، فآخر المُعلن، إلقاء القبض على 700 شخص في إيران بتهمة التخابر مع الصهاينة خلال 12 يومًا؛ أي أنَّ طهران كانت تُحارِب على 4 جبهات، وربما أكثر؛ فهناك جبهة داخلية ضد الجواسيس والعملاء، وخارجية ضد الصهاينة، وأخرى ضد الأمريكان، وحرب رابعة تقنية مع مجموعات استخبارات إقليمية وعالمية خلال حرب الاثني عشر يومًا. ورغم ذلك لم تنهر إيران، وخرجت منها بالحفاظ على نظامها السياسي ومخزونها النووي وأسلحتها الصاروخية الضاربة.. إلخ. ولو كانت أي دولة أخرى لربما يحق لنا القول إنها تفككت من الساعات الأولى للعدوان.
وقد نُرجع بعض أسباب الاختراقات للدولة العميقة في إيران إلى العقوبات الدولية والأمريكية عليها منذ سبتمبر 2006، وبصورة شاملة منذ 2017، وبسبب تعددها وتنوعها الديموغرافي والأيديولوجي وارتباطاته الخارجية، وانشغالات طهران الخارجية؛ مما جعلها تُفكِّر في الخارج أكثر من الداخل، وتُنفق عليه مما يتوافر لها من موارد. ورغم ذلك لم يُستقَر حتى الآن على تعريف واحد لمفهوم الدولة العميقة، لكن بالنظر لكل التعريفات، فإنها تعني تلك الدولة التي تؤثِّر فيها قوى داخلية مُتجذِّرة؛ سواءً كانت مادية كالاستخبارات والجيش والكيانات الاجتماعية القبلية والأيديولوجية، أو معنوية كالقيم والمبادئ المتجذرة. وعندما نُسقط هذا التعريف الشامل على دول المنطقة، سنجد أن صناعة بيئات اختراقاتها تتم منذ بضع سنوات بصورة غير واعية بانعكاساتها وآفاق استغلالها من قِبل أجندات عديدة؛ وذلك بسبب جنوح السياسات المالية والاقتصادية- كما أوضحنا ذلك سابقًا- وبسبب صناعة مجتمع مدني على غرار المدنية الغربية، دون الإلمام بالسياقات التاريخية لمُجتمعاتها، وكذلك الظروف والأسباب التي انبثقت من خلالها الأنظمة السياسية المعاصرة؛ فهذا الجنوح قد شلَّ تأثير الدولة العميقة فيها، فلم يعد منظورا "الأمن والسياسة" الاستراتيجيان مؤثرين في التحولات المالية والاقتصادية الجديدة التي أصبحت من اختصاص نيوليبراليين، جُل هاجسهم حسابات مالية مُجرَّدة؛ مما بدا أن المشهدين الإيراني والخليجي، كأنهما مُستهدفان لتفكيك جبهاتهما الداخلية.
لذلك.. لا بُد من دراسة تجربة الاختراقات الداخلية الإيرانية حتى لا تتكرر في المنطقة، ولدواعي استدامة متانة الجبهات الداخلية، ولأنَّ التجربة الإيرانية تعكس لنا مستقبل الصراعات والتوترات والحروب، فقد مهَّدت اختراقاتها الداخلية نجاح الساعات الأولى للعدوان الصهيوني، وكادت تُحقق النصر الكامل في ساعاتها، وبالتالي تعطينا مؤشرًا على أنَّ الحروب والصراعات المقبلة لن يطلق فيها رصاصة واحدة في ظل التقدم المُتسارِع للتقنية والحروب السيبرانية، وسهولة تجنيد عملاء من الداخل وزرع عملاء من الخارج إذا ما توفرت لها البيئات المواتية، ووصل الأمر بالاختراقات في إيران إلى إقامة مصنع للطائرات المسيرة، دون أن تكتشف ذلك أدوات الدولة العميقة!
وأولى بدراسة هذا الملف، الدول العريقة التي يطمع في جيوسياسيتها القريب والبعيد، الأخ والصديق، والعدو المُتربِّص بها والذي قد يتقاطع مع الأطماع الإقليمية القديمة / الجديدة، لذا عليها دراسة تجربة الاختراقات الأجنبية للشأن الإيراني من حيث الأسباب ونجاحها، وانعكاساتها على مجرى العدوان الصهيوني على إيران حتى آخر ساعة من ليلة وقف إطلاق النار، وكذلك آفاقها المستقبلية. وقد أعملتُ الفكر الاستشرافي والاستباقي من المنظور الاستراتيجي بُغية تحريك الاهتمام السياسي والأمني بهذا الملف، وقد نشرتُ بعض نتائجه في مقالي الأخير المعنون باسم "عنصر المُفاجأة.. درس كبير للخليج"، ونُخصص الجزء الثاني لعرض أهم استنتاجاتي العقلانية التي أُقدمها كمدخل أساسي لخارطة طريق تمتين الجبهة الداخلية لكل دولة، ونُعوِّل عليها في مواجهة أي اختراقات داخلية وخارجية للدول العريقة رغم اختلاف البيئات الداخلية.
وكُل من يُحلِّل تداعيات التحولات المالية والاقتصادية الخليجية- مع التباين- سيجد حتى الآن أنها في طريق "تعويم منظومة الولاء والانتماء" من بوصلتها الرأسية الحصرية إلى مستويات أفقية مفتوحة وغير منضبطة- داخلية وخارجية- وذلك عندما بدأ تأثير النيوليبراليين يتزايد، وتبنُّوا سياسات مالية واقتصادية غربية لا تصلح كلها داخل البيئة الخليجية، ونخشى أن تؤثر سلبًا بصورة ممنهجة على منظومة الولاء والانتماء. لا نشير هنا إلى أمثلة للابتعاد عن الإسقاطات المكانية، وبالتالي لا ضمانات في حقبة التعويم في ظل فتح أبواب الدول على مصاريعها للاستثمارات الأجنبية، والسماح للوافدين من جنسيات مُختلفة بممارسة معتقداتهم عبر إقامة كيانات خاصة بهم.
هُنا نجد الحاجة ماسَّة إلى التذكير بتاريخية منظومة الولاء والانتماء في الدول العريقة، وكيف وظَّفتها الأنظمة السياسية الحديثة لصالح استقرارها خاصةً، ومجتمعاتها عامةً. ويمكن القول إن مؤسسي الدول الحديثة- عليهم رحمة الله- كانوا من الذكاء ما جعلهم يُصوِّبُون مسار الولاء الاجتماعي/ التاريخي من الجذور (القبيلة، المنطقة، المذهب) لصالحهم، ونجحوا في ذلك بامتياز، عبر تأمين مجموعة حقوق اجتماعية مجانية، جعلتهم يعيشون في أمن وأمان، ولا يقلقون على لقمة عيشهم ولا على مستقبل أبنائهم. لذا نؤكد أن أي تعويم للولاء الآن يخرج عن سياقاته التاريخية، وسيُرجِعه لأصله، وستتقاطع معه الاجندات الأجنبية- لا محالة- بينما يتحدَّد مفهوم الانتماء ضمن السياق التاريخي في الانتماء للأرض والتضحية من أجلها، وقد عزَّزت السُلَط الحاكمة الحديثة هذه الانتماءات، وجعلتها على صعيد الوطن كله، بعدما كان يتقوقع مناطقيًا، وداخل كل منطقة جهويًا.
ونرى أن أي حداثة أو تطوير للدول العميقة، ينبغي- كشرط وجوبي- أن يتم من خلال الأخذ بعين الاعتبار تلكم السياقات التاريخية لمنظومة الولاء والانتماء، ونجاح مُؤسِّسي الدولة الحديثة في إعادة برمجة المنظومة بثُنائياتها لصالح الدول وانظمتها، في ظل حقيقة أن هناك أنظمة حديثة لم تتأسس على أساس الجغرافيا، وإنما السياسة، ومن هنا لا مجال للمقارنة بالدول الأخرى التي انبثقت أنظمتها السياسية من بيئات مختلفة. لذلك منظومة الولاء والانتماء ستظل مرهونة بمُسوِّغاتها، ومن ثم البناء عليها، والمساس بها جوهريًا- أي في أعماقها- سيُرجِع الأصل لمساره- نُكرِّر- عندها ستكون الاختراقات التقليدية سهلةً، وكذلك بإمكان التقنية المتقدمة أن تخترقها بلا مجهود يُذكر، وسيكون مفعولها أقوى من القوة الخشنة، ولن يكون هناك داعٍ لها، لذلك من الأهمية السياسية العاجلة أن تَطرح كل عاصمة خليجية التساؤلين التاليين:
1- كيف تُحافظ على قوة وتماسك جبهتها الداخلية؟ والإجابة باختصار مراجعة آخر خياراتها المالية والاقتصادية وإعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي.
2- هل "حرب الاثني عشر يومًا" بين الكيان الصهيوني وإيران ستكون بداية لتحول فكري عميق في العقلية الخليجية المحكومة بالتنافس على حساب التكامل؟
نخشى هنا من غرور الوهم بانتقال الثقل العربي التقليدي لصالح دول المنظومة الخليجية، وهي غير مُنسجِمة أو مُتناغِمة في خططها الاستراتيجية، وبالتالي قد نشهد تراجعًا للمنظومة الخليجية في حقبة يُفترض من الدول الستة بعد "حرب الاثني عشر يومًا" أن تشعر بأهمية الأمن الجماعي والاستقرار المشترك المترابط فيما بينهما وليس العكس؛ فالمخطط الصهيوني المقبل لا يمكن لدولة أن تواجهه بمفردها، وقد تدخل فيما بينها في توترات إذا لم تكن الحرب الصهيونية الإيرانية قد غيَّرت عقليتها.