طالب المقبالي
قبل اثني عشر عامًا وتحديدًا في حج عام 1431هـ كانت آخر رحلة للديار المُقدسة، وكانت واحدة من أجمل الرحلات إلى أطهر بقعة على المعمورة وذلك لعدة أسباب:
من أهمها أنها صادفت شهر نوفمبر وهو موسم اعتدال الطقس في سلطنة عُمان وسائر بلدان الخليج العربي، فالطقس يلعب دوراً مهماً في نفسية الحجاج والمعتمرين لأداء مناسكهم بكل أريحية ويسر.
وفي هذه الرحلة كانت الأحلام كبيرة والتخطيط ذهب إلى أبعد الحدود، فالمتعة كانت كبيرة ولا توصف. فمن بين الخطط والأحلام أن أؤدي الحج كل 10 سنوات، وقد ترافق مع ذلك حلم آخر وهو شراء سكن مُتواضع في مدينة الرسول محمد صلى عليه وسلم للمكوث في تلك الديار مدد أطول وذلك تزامناً مع تقاعدي من بداية عام 2020.
إلا أنَّ هذه الأحلام قد تبددت بسبب جائحة كورونا التي حالت دون الذهاب لأداء مناسك الحج وفق المخطط كل 10 سنوات، وهذا ليس المخطط الوحيد الذي قوضته هذه الجائحة، سائلين المولى العلي القدير أن يرفع هذه الجائحة عن بلادنا، وعن سائر بلاد المسلمين.
فبعد اثني عشر عاماً، ومع بدء تلاشي جائحة كورونا قدَّر الله تعالى أن يكتب لنا مجدداً زيارة الديار المُقدسة لأداء مناسك العمرة. هذه المرة لم تكن هناك ترتيبات مسبقة ولا تنسيقات وتخطيط، وإنما هي الصدفة التي جاءت بمشيئة الله أن كتب لي هذه الرحلة المباركة. فقد قرأت إعلاناً صادراً من مكتب الشكيلي للحج والعمرة بتنظيم رحلة استباقية لرحلات شهر رمضان المبارك.
وقد بادرت على الفور بالتسجيل في الرحلة البرية، لحُبي الشديد للرحلات البرية لما تحمله من تفاصيل جميلة ومغامرة، وفيها كسب معارف من مختلف البلدان لطول الفترة التي تجمعنا بالمرافقين إلى الديار المقدسة لمدد أطول من مدد الرحلات الجوية التي لا تزيد عن ساعتين ونصف الساعة.
الرحلة تبدأ متعتها بالتطواف في البلدان لتجميع المسافرين من الولايات والقرى المختلفة، والتعرف على بلدان أحياناً تكون جديدة، أو نمر عليها في طرقاتنا مرور الكرام، فنتعرف على أهلها، ونتبادل الأحاديث معًا، ونستمع إلى الأقاصيص عن تلك البلدان، فبهذه اللقاء والحكايات والمرح تقصر الطريق وننسى متاعبها، ثم نقف عند محطات الوقود والاستراحات التي تضم خدمات متنوعة، كالمساجد والمصليات لأداء الصلوات المفروضة وصلوات التنفل، كذلك المقاهي ودورات المياه ومحلات بيع البضائع المتنوعة التي نجد المتعة عند التسوق منها.
الجميل أننا في هذه المرة نسلك طريق الربع الخالي الجديد، الذي يربط سلطنة عُمان، بالشقيقة المملكة العربية السعودية، الذي اختصر الوقت كثيرًا من حيث التوقف في منافذ دولة الإمارات العربية المتحدة التي تستغرق من الوقت ما يصل إلى أربع ساعات في كل منفذ، إضافة إلى اختصار ثلث المسافة تقريباً، فالطريق سلس وسالك رغم أنه غير مزدوج، إلا أنه عرضة للعواصف الرملية، وقد صادف مرورنا عواصف رملية، لكنها بالنسبة لي ممتعة جداً لمشاهدة تلك الرمال المتحركة على الطريق الأسفلتي كأمواج البحر، مناظر تسلب الألباب، لم أرَ مثلها من قبل سوى في طريق هيما ـ صلالة أحياناً.
وتوجد بالطريق محطات وقود واستراحات للصلاة وتناول الأطعمة كما أسلفت، إلا أنها مُتباعدة، ويجب الحرص على ملأ خزان الوقود بالكامل في كل محطة، فأحيانا تصل المسافة بين المحطة والأخرى 250 كيلومترا.
ونعيش أجواء المناطق التي نمر عليها، وعلى سبيل المثال كنَّا قبل كتابة هذه الجزئية من المقال في طريق العودة بمنطقة القصيم، وكانت درجة الحرارة كما أظهرها "جوجل" في هواتفنا 14 درجة مئوية، في حين تركناها في مسقط والرستاق بين 33 إلى 35 درجة.
ومن تفاصيل الرحلات البرية التي استمتعت بها ويمتعض منها كثير من النَّاس هي الوقوف في طابور في المنافذ البرية التي تمنحنا الراحة لبعض الوقت من إراحة أرجلنا من التقفص في الحافلة، لنعود إليها ونحن نحس بالراحة، وبأمانة فقد أمضينا في المنفذين أقل من ساعة، خاصة عند العودة، وأحيي شرطة عُمان السلطانية التي وفرت في المنفذ دورات مياه ومسجد ومصليات للنساء داخل وخارج المبنى.
لقد مررنا بالعديد من المحطات والاستراحات لأداء الصلاة وتناول الطعام واحتساء الشاي والقهوة، والتزود بالوقود، والتسابق إلى دورات المياه، وهذا جانب من متعة الرحلات البرية.
يعتقد البعض أنَّ دورات مياه الطرقات سيئة ومتسخة، وللأمانة مررنا باستراحات ومساجد تضم دورات مياه غاية في النظافة، وتتوفر بها كافة الخدمات، بعكس الطريق القديم الذي ما زالت صورة المشاهد عالقة في أذهان المسافرين. وللأمانة جميع الاستراحات التي مررنا بها كانت رائعة، ودورات المياه نظيفة، وأنا أعزو ذلك إلى حسن اختيار وانتقاء سليمان الشكيلي للحج والعمرة بطاقمه الإداري الذي يسير رحلاته للأماكن الراقية التي تليق بمقام الحجاج والمعتمرين الذين اختاروا حملاته.
لدي تجارب عديدة مع رحلات مختلفة، وقد صادفت ما تشمئز منه النفس في الطريق، وكانت تجربتي هذه المرة جداً مختلفة، مما زاد من متعتي وتعلقي أكثر وأكثر بالرحلات البرية.
أنا هنا لا أروج لحملة الشكيلي ولكن أقول حقيقة واقعة، إن متعة الطريق تنبع من حسن إدارة الرحلة. ويمكنكم تتبع إحداثيات إحدى المحطات التي مررنا بها في طريق الربع الخالي وهي: 24.179954,48.899913 وقد لا يخطر ببالكم أن عدد دورات المياه في مسجد هذه المحطة 38 دورة مياه حسبتها بنفسي، وهناك محطة يمكنكم اعتبارها منتجعًا كونها تشتمل على مركز تجاري كبير يضم متاجر فخمة ومسجدًا حديثًا، وعدد دورات المياه في مسجد المحطة 58 دورة مياه ومغاسل لم أستطع عدها، وألعاب للأطفال ومطاعم وخدمات راقية جداً جداً، وهنا أرفع القبعة للمملكة العربية السعودية التي تهتم بمرتادي الطريق وتقدم لهم الرفاهية في أسفارهم.
بقي أن أعرفكم أنَّ هذا المنتجع أو الاستراحة على الطريق من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وليست في طريق الربع الخالي، ولكن حتماً ستمرون بها بمشيئة الله، وأنصح بألا تفوتوا فرصة المرور بها، وهذه إحداثياتها: 23.007982,39.927809.
ولا تخلو رحلة من وجود ملاحظات فالكمال لله وحده، وقد تم نقلها مباشرة إلى صاحب الحملة، الذي تقبلها بصدر رحب، ووعد بتفاديها مستقبلاً بإذن الله، وبالإنصات لسماع الملاحظات يتحقق النجاح. فبعد يوم ونصف تقريباً وصلنا مكة المكرمة، وما أن وطئت أرجلنا ترابها الطاهر حتى نسينا جميع الإرهاصات وكآبة الطريق، وقد أدينا مناسك العمرة بسلاسة ويسر ولله الحمد، وبعد ليلتين قضيناهما في مكة توجهنا إلى مدينة الرسول عليه السلام، طيبة الطيبة، المدينة المنورة لزيارة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد مكثنا بالمدينة ليلة واحدة، ثم عدنا إلى أرض الوطن التي تبعد عنَّا في هذه اللحظات التي أختم فيها مقالي بـ1777 كيلو مترًا.
لولا الكآبة والملل من سردي القصصي للأحداث في هذه الرحلة لما توقفت عن السرد، فالرحلة حافلة بالمشاهد الجميلة، واللحظات الممتعة والمواقف الروحانية.