أسعار النفط وعقد التنمية القادم

 

مسلم سعيد مسلم مسن

رجعت أسعار الطاقة إلى مستوياتها المرتفعة منذ أكثر من 8 سنوات تقريبا (سبتمبر 2014)، فقد تجاوزت أسعار النفط حاجز الـ94 دولاراً في بداية شهر فبراير 2022م، مع ما تشهده الأسواق من تقلبات نزولا وصعودا بسبب المتغيرات الجيوسياسية الراهنة، بدءًا من الأزمة الروسية – الأوكرانية وانتهاء بعمليات التفاوض على الملف النووي بين إيران والغرب وتنبؤات تقدُّمها نحو الحل وإعادة مليون برميل يومياً للأسواق مع ضبابية التوقيت.

لا نعلم يقيناً وربما لا تعلم حتى أكفأ الوكالات الدولية عن مدى استمرار أسعار الطاقة واتجاهها الصعودي أو تقهقرها مرة أخرى. ما هو تقريبًا واضح حتى الآن أن عام 2022م سيشهد ارتفاعا في المتوسط مقارنة بالعام الذي قبله، ولن نخوض كثيرا بالأرقام غير أن ما اتفقت عليه تقريبا منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية وموقع الطاقة ((Attaqa 2022 بأن إجمالي الطلب العالمي على النفط تقريبا 100 مليون برميل يوميا في عام 2022م، كما ترجح هذه المؤسسات أن تبقى الأسعار على المدى القريب في حدود 90 إلى 100 دولار نظرا لعاملين مهمين: الأول متعلق بتوقع انتعاش الطلب على النفط مع تلاشي آثار الجائحة وعودة قطاعات السفر والسياحة للعمل بكامل الطاقة المتاحة والثاني: تراجع مخزونات النفط إلى أدنى مستوياتها منذ 7 سنوات، مع كامل الاعتبار للعوامل الجيوسياسية الأخرى التي أشرنا لها في بداية المقال. أما بالنسبة للمدى المتوسط فلا يمكن في حقيقة الأمر التنبؤ بأسعار الطاقة عمومًا والنفط على وجه الخصوص ولكن السائد الآن بأنَّ التفاؤل يغلب توقعات المؤسسات والبنوك الدولية على ذهاب الأسعار إلى الاتجاه الصعودي مع بعض الحذر. وقد اجتهدت بعض التقارير التي صدرت في العامين المنصرمين في تحديد مستقبل النفط عمومًا وأسعاره في الأسواق، فقد نشرت مجلة ذي الإيكونومسيت (The economist, July 2020) في النصف الثاني من عام 2020 تقريرًا يؤشر إلى توقعات نهاية عصر النفط في المستقبل المنظور وبأن ابتعاد اقتصادات العالم عن مصادر الطاقة الأحفورية سيعرض هذا القطاع إلى تدني الأسعار وعدم قدرة الدول النفطية بالأخص دول الخليج على مواجهة عجوزات المالية العامة، كما إن هناك دراسة أصدرها صندوق النقد الدولي في الربع  الأول من 2020م حول مستقبل النفط والاستدامة في دول الخليج وقد حذر من أن استمرار النفقات مع انخفاض الإيرادات الهيدروكربونية قد يعجل بنفاذ الثروة المالية لتلك الاقتصادات في 2034 إذا لم تعمل إصلاحات اقتصادية حقيقية.

تلك التقارير وغيرها من وكالة الطاقة الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يتلاشى الاهتمام بها عندما ترتفع أسعار النفط وسرعان ما تطوى نتائجها ولا أحد يتذكرها سواء المتشائم منها أو حتى المتفائل، ما يهم الآن هو عقد التنمية القادم (العشر سنوات القادمة) والذي تعول عليه الدول النفطية (بالأخص دول الخليج) الكثير وتبني عليه الآمال العريضة في أن تحدث من خلاله تحوَّلا حقيقيا نحو الاقتصاد غير المرتبط بالنفط كيفما كانت تسميته: اقتصادًا رقميًا أو معرفيًا أو دائريًا أو الاقتصاد القائم على الابتكار أو الإبداعي...إلخ، وذلك من منطلق أن ما لم يدرك خلال عقود التنمية السابقة يمكن تداركه لاحقا وتحديدا في عقد التنمية القادم الذي هو الأقرب لتأثر الطلب على الطاقة الهيدروكربونية عند انقضائه. كما أن ربط أسعار الطاقة- بالأخص النفط- بعقد التنمية القادم ربما يكون منطقياً لأننا لا زلنا نرى أن النفط هو "نعمة" على دولنا واستطاع أن ينقلها من مستويات تنمية منحدرة إلى معدلات متوسطة وعالية خلال الخمسة عقود الماضية على شتى الصعد والمجالات: صحيا واجتماعيا وماليا واقتصاديا فلماذا لا نقول بأن عقد التنمية القادم يحتاج إلى هذه الثروة لتمويل برامجه وخططه ليتسنى لاقتصاداتنا إتمام عمليات التحول؟ سؤال قد يدخلنا في نقاش طويل مع من يعتقد بأنَّ علينا الابتعاد كثيرا عن هذا الحديث حفاظا على الوقت والجهد وعوضا عن ذلك الاجتهاد والتفكير خارج منظومة الاقتصاد النفطي من الآن، ولكننا نجيبه أننا لا زلنا نحتاج النفط كرة أخرى لمهمة جديدة بعيدة عن التأسيس إلى ما يسمَّى بالتحول ولكن كيف لنا أن نطال ذلك وقد حاولنا مرارا وتكرارا في بناء رؤى وخطط وبرامج تدعم القطاعات غير النفطية ولكن دون نتائج تذكر؟ بل وكيف يمكن للنفط أن يكون سلاحا فعالا يضمن تحقيق تلك النقلة التي نطمح لها جميعًا؟

لا أدعي القدرة على الإجابة النوعية على هذه الأسئلة التي في اعتقادي بأنها محورية للمخططين والمنفذين والقطاع الخاص والشركاء الدوليين، ولكني سأجتهد في وضع بعض الأسس التي أرى أنها مهمة لأن يكون النفط مغذيا ووقودا فعَّالا ومفيدا لعقد التنمية القادم وذلك حسب ما يلي:

  1. استمرارية إصلاح المالية العامة:  

بعد الصدمة الأخيرة لأسعار النفط بسبب الأزمة النفطية (منذ منتصف 2014) وجائحة كوفيد-19 قامت معظم الدول النفطية ببعض الإصلاحات للنفقات العامة بعضها كان خجولا والبعض الآخر كان مؤثراً. لكي تضمن هذه الاقتصادات تأثيرات الأسعار على المدى المتوسط لابد وأن تستمر عمليات تطوير نمط وشكل الميزانيات وربطها ببرامج واضحة وفاعلة واستهداف تخفيض نقطة التعادل (Break-even) إلى حدود الـ60 دولار للبرميل أو أقل بما يضمن استدامة النفقات ورفع الإيرادات، وعدم تكرار ما  قد دأبت عليه هذه الاقتصادات في السابق من توقف إصلاحات المالية العامة عند رجوع أسعار النفط حتى أصبح ذلك جزءًا من ثقافة سائدة، وهذا – بطبيعة الحال- يُؤثر على عمليات التحول الاقتصادي خلال عقد التنمية القادم ويعطل برامجها ويجعلنا أمام معضلة أو تحدٍ حقيقي من زاوية المالية العامة التي تعتبر سياساتها محركًا مهماً لتحقيق التحول المنشود.

  1. تعزيز الثروات السيادية:

إن تعزيز الثروات السيادية من خلال تمويل أكبر للإيراد النفطي لصناديق الثروة السيادية خلال عقد التنمية القادم يعد بمثابة خطوة إستراتيجية نحو التنويع شريطة أن تدار هذه الصناديق باحترافية وعقلية اقتصادية واستثمارية تراعي متطلبات ومتغيرات الاقتصاد الوطني لتكون ضمن روزنامة السياسات الاقتصادية الكلية مع توجيه جرعات أكبر للاستثمار الداخلي خلافاً للمراحل السابقة لأنَّ ذلك يدخل ضمن وصفة العلاج اقتصاديا لمواجهة بعض مشاكل الاقتصاد (الباحثين عن عمل، معدلات الاستثمار، تحفيز الإنفاق الفردي والعائلي، تنمية القطاع الخاص المحلي).

 

  1. هيكلة برامج عقد التنمية القادم:

إذا كنَّا نستنزف الثروة النفطية في برامج لا علاقة لها بالتحول فنحن من جديد نفوت فرصاً إلى حين نضوب هذه الثروة. نعني هنا بالهيكلة تمويل البرامج المعززة للمحتوى التكنولوجي والمعرفي العالي والذي سينعكس إيجابًا على القيمة المضافة محليًا. وقد صدرت في معظم الدول النفطية قوانين وإجراءات ولوائح لتعزيز أدوات الاستثمار الأجنبي المباشر والشراكة بين القطاعين العام والخاص ولكن دون تفعيل ونتائج تخدم الاقتصاد. العقد القادم من التنمية يحتاج أن تكون هناك سياسات لتعزيز تلك الأدوات بما يخدم اقتصاديا ومالياً برامج التنمية. ويمكن القول إن المجالات القادمة للتنمية لا ينبغي حصرها من خلال قطاعات أيًا كان عددها ونوعها وإنما إتاحة الفرصة لجميع قطاعات العمل وفق خطط تشغيلية تتجاوز البيروقراطية وتبتكر أدوات تمويل وتحيل التمويل والتنفيذ للقطاع الخاص المحلي والأجنبي متى ما تطلب ذلك مع الاهتمام بالنتائج. كما إن برامج الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة لابُد وأن تأخذ حيزًا مُعتبرًا وحصة أكبر في قادم الوقت، مع أهمية استكمال التشريعات والإجراءات المطلوبة دولياً لتمويل برامج التكيف المناخي للاستفادة من الاستثمار الدولي خلال العقد التنموي القادم.

  1. مهارات المستقبل:

تمويل عقد التنمية القادم لابُد وأن ينصب في تطوير مهارات المستقبل للكوادر البشرية، فبعض الدول ركزت على مواردها البشرية حتى وإن لم يكن لديها ثروات نفطية أو تحديدًا قامت بتوظيف مدخولات الثروات النفطية في التعليم النوعي القائم على المهارات المطلوبة في سوق العمل والتي يتوقع لها أن تميل كثيرًا ناحية الأتمتة والذكاء الإصطناعي والبرمجة، وهذا الجانب لن يتحقق إلا من خلال برامج البحث والتطوير وتعزيزه بالسياسات والبرامج والميزانيات اللازمة.

ختامًا، نعتقد أن الفرصة ما زالت قائمة بوجود النفط خلال عقد التنمية القادم أملا في حصول عمليات التحول إذا ما استمرت الإصلاحات على المستويين الاقتصادي والمالي وتبنت الحكومات برامج تنمية تناسب تلك المرحلة.