للجادين فقط... قصة مُلْهِمَة من وادي الحاجر

 

د. حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

صناعة المجد أوّلُها خُطوة تتبعها خطوات، والعظماء في كل زمان ومكان قصصهم في مراحل الطَّلَب تُنبئ عن صناعة مَجدٍ مؤثّلٍ قادم يشق طريقه بقوة.

نعم، للمَجد إرهاصات تتبعه خُطوات تسير سيرا حثيثا لا تلوي على شيء سوى الوصول إلى الهدف المرسوم بإيجاد الوسائل الممكنة والمتاحة في سبيل تحقيقه.

قصتنا الملهمة قادمة من قرية "فجري" إحدى قُرى وادي الحاجر بولاية الرستاق في مُحافظة جنوب الباطنة، وما أكثر القصص المُلهمة والمُلهبة التي استقيناها من قُرى ذلك الوادي، والتي كانت ومازالت نبراسًا يضيء الطريق لمن أراد أن يسلك طريق العظماء، ويضع بصمته بالخط العريض في صدارة صفحات المجد.

وقرية فجري من اسمها فجّرت طاقات أبنائها المبدعين وبعثتها من تحت رُكام الجبال لترى النور؛ وجعلتهم يثورون كالبركان يحرق الصعاب، ويدفن تحت رماده الملتهب التحديات والعقبات، وابنتنا شهد بنت خميس الغافرية الطالبة في الصف الثاني عشر بمدرسة القرية بولاية الرستاق إحدى المبدعات القادمات من هناك؛ حيث الجبال الشاهقة والتضاريس الوعرة والطُرُق الخَطرَة، والتي ما سلكها أحدٌ إلا وردد شهادة لا إله إلا الله مرارا وتكرارا وحوقل بلا حول ولا قوة إلا بالله، وقبل ذلك بسمل، ببسم الله مجريها ومرساها؛ فقد بذلت ومازالت تبذل من الجهد، وتُنفق من الوقت ما تملك وما لا تملك في سبيل الرفعة والسؤدد.

لا أريدُ أن استطرد كثيرًا، وفي ذات الوقت لا أريد أن أختزل قصة بطلتنا الملهمة في بضع سطور؛ فمثل هذه القامات المبدعة التي لا ترضى بالإنجازات الهزيلة ينبغي أن نُحيط بها علما، خاصة ونحن نتحدث عن إبداع يشبه المستحيل حفرته شهد بأنامل يديها وبأخمص قدميها على صفحات صخور جبال وادي الحاجر، ونحتته بهمّتها المتوقدة التي تُضيء قبل انبلاج الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على هامات الآباء والأجداد، منطلقة للمستقبل بهمة عالية ونظرة ثاقبة ودماء جديدة، لتحيك قصة عنوانها لا للمستحيل، ونعم للتحدّي، ممتطية تلك الدابة التي تُسمى سيارة الدفع الرباعي، ومُشعلين فتيلها كل فجرٍ لتمسح عن أعينهم غشاوة عتمة الليل البهيم، وقطَعها المظلمة، حتى إذا ما جعلوا خلفهم تلك الجبال الشاهقة استأذن النهار الليل ليمحي سواده الموحش ويبدأ عمل بياض النهار (يُكَوّرُ اللَّيلَ عَلَى النَّهَار وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيل)، وفي تلك الأثناء لا تسأل عن المخاطر، ولا تسأل عن الأتربة التي علقت فيهم، وكأنها كريمات برائحة التراب، ولكن مبدعتنا تترنم دائما، بقول أبي القاسم الشابي ليُسلّي ويُخفف عنها ما تجد:

وَلا بُدَّ للَّيل أن يَنجَلي// وَلا بُدَّ للقَيد أَن  يَنكَسر

إذَا مَا طَمَحتُ إلى غَايَةٍ // رَكبتُ المُنَى وَنَسيتُ الحَذَر

وَلَم أَتَجَنَّب وُعُورَ الشّعَاب // وَلا كُبَّةَ اللَّهَب المُستَعر

وَمَن لا يُحبّ صُعُودَ الجبَال // يَعش أَبَدَ الدَّهر بَينَ الحُفَر

تلك هي شهد الغافرية، تنسج خيوط قصتها من خمسة أبواب رئيسة محزنة، وفي ذات الوقت مبهجة، لكل بابٍ منها جزءٌ مقسومٌ لها، يبدأ باب قصتها الأول باسم يوم الأحد، وخاتمة الأبواب باب الخميس، وما بينهما من أبواب. فتبدأ قصة بطلتنا، منذ الفجر الكاذب؛ حيث تزور المطبخ وتعمل فيه ما تعمله الأم لأبنائها، ثم تمتطي وتدخل مركبة الموت في طريقها إلى المستقبل بوجه غير الوجه الذي خرجت به، وبملامح غير الملامح التي رسمتها، وبنفسية أخرى غير التي كانت تضطرم أوارها، وتخرج من تلك المركبة وكأنها قادمة من معركة تتقاذفها تموّجات الجبال، وتهوي بها المنحدرات إلى بطن الوادي السحيق، مع ما يتسلقونه من عقبات كؤودة تمسك الأنفاس، وكأن الروح تُريد أن تُلاقي ربها، مع انقطاع عن الدراسة يدوم ليومين وثلاثة، وإن قلت أسبوعا فلست مبالغا، خاصة عندما تنزل الأودية، لتعذر حركة السير لانقطاع الطريق.

وعلى الرغم من ذلك كله، مما ذكرت، ومما أعرضت صفحا عنه؛ فإنّ شهدنا انتزعت الميدالية الفضية في نتائج مناهزات اللغة العربية الخليجية بمكتب التربية العربية لدول الخليج، بجدارة واستحقاقٍ من خلال منافسة شرسة جعلتها ترتفع على الصعاب والتحديات وتجمعها حجارة لتبني بها إنجازا ثمينا يعادل أضعاف الإنجازات التي مكّنت زميلاتها الطالبات بالفوز في باقي المحافظات؛ وذلك نتيجة الإمكانات المتاحة والسبل الميسرة والتأهيل المستمر لهنّ.

شكرا لأسرة أنجبت شهدًا، ودفعتها دفعًا بقوة إلى الأمام، وشكرًا لمدرسة القرية ومعلماتها على احتضان المبدعات، وشكرًا للمديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة جنوب الباطنة ممثلة في قسم الأنشطة وتشجيعهم المُستمر على الإبداع.