الصراع الخفي للشر في "لعبة الحبّار"

يحيى الناعبي

 

خلال قراءات مُتفرقة في الصحف، أتناول خبرًا في إحدى الصحف حول المشاهدات الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا ودول أوروبا، والمعروضة على برامج قنوات العرض البديلة مثل شبكة نتفليكس (Netflix) وهو سلسلة حلقات المسلسل الكوري الجنوبي (Squid Game) أو لعبة الحبّار.

بالرغم من كمية العنف التي يحملها هذا المسلسل والتي لا تختلف عن باقي أفلام العنف الأخرى التي تنتجها شركات الأفلام العملاقة، إلا أنَّ هذا المسلسل يحمل قاعدة مختلفة مبنية على لعبة المقامرة والرهان في حياة البشر، بنفس الطريقة التي تمارس في رهانات السباقات الرياضية المختلفة. وما في المراهنات القائمة في هذا المسلسل مختلف عما يعرفه الجميع في المراهنات الرياضية؛ حيث يحمل في طياته عامل السادية الوحشية من قبل الأثرياء في رؤية المُشاركين يموتون الواحد تلو الآخر؛ لأنَّ الرهان يكمن فيمن سيبقى حيًا من بين ما لا يقل عن 400 مشارك.

المسلسل مليء بالمتناقضات في السلوك البشري: التعاون يقابله الأنانية، الاتحاد يُقابله التفرقة وخيانة بعضهم البعض؛ لأن المنظّم لهذه المنافسة يقرأ مجموعة من الشروط في الحلقة الأولى من المسلسل ومن أهمها أن المُتسابق الوحيد الذي يبقى على قيد الحياة سوف يكسب المليارات من (won) عملة كوريا الجنوبية. استخدم منظمو مسابقة الموت التأثير البصري؛ حيث إن صندوق المال الزجاجي كان مُعلقًا في سقف القاعة التي ينامون فيها بأسرة متراصة فوق بعضها البعض في مشهد مثير للشفقة. في البداية لم يكن يتصور المتسابقون أن "لعبة الموت" جادة وحقيقية، لكنهم بعد أن رأوا مجموعة من زملائهم يسقطون بالرصاص الحي في المرحلة الأولى من المسابقة، أدركوا أنَّهم أمام واقع الموت. بعد ذلك ومن هول الصدمة تجمعوا على رأي واحد وهو الخروج من المُسابقة. فترك لهم منظمو المسابقة حرية الخيار لمتابعة المسابقة أو الخروج منها بشرط أن تكون غلبة الرأي لمن هم أكثر، فانقسموا بين مؤيد ومعارض، كان عنصر الإثارة والتحريض البصري يكمن في الصندوق الزجاجي المليء بالمليارات. بعد أن بلغ عدد المؤيدين للخروج من اللعبة أكثر من المعارضين، وافق منظمو اللعبة على خروج المتسابقين والعودة إلى منازلهم معصوبي الأبصار. ولم تطل مدة مكوثهم في العودة إلى حياتهم الطبيعية كثيرًا، حتى بدأ شبح الرؤية لمشهد المليارات في الصندوق الزوجي يقض مضاجعهم، ومن ثم تلقوا رسائل من المُنظمين تدعوهم لفرصة العودة إلى المسابقة من جديد ليخرجوا من منازلهم في ساعة محددة تأتي حافلات لتقّلهم من جديد بعد أن يتم تخديرهم بغاز منوّم. ويبدأ بعد ذلك صراع البقاء وهو يحمل معه كل معاني الشر، فالهدف من هذه التضحية بالروح هو الفوز بالمال، وبالتالي تنعدم وتغيب كل الجوانب الأخلاقية من أجل البقاء.

يتحول سيناريو الشر على مر العصور على هيئة تحالفات وخيانات، تجمعٍ وفرقة، حب وخيانة. وبالرغم من أنَّ المسابقة تتكون من 6 مراحل فقط للبلوغ إلى النهاية، لكنها تلخص مشهد الإنسان الذي فشلت في قوامه كل الشرائع الدينية والتعاليم الإنسانية تحت وطأة المال والأنانية وحب الذات. أيضًا ترك المسلسل مبررًا لذوي النفوذ والسلطة والمال لأعمال الشر التي يقومون بها في حق الضعفاء ومن يحملون مبادئ يعتبرها الآخر مزيفة، وليس لها أساس في الحياة؛ فالحياة قائمة على العنصر البراجماتي البحت بأشكاله المتعددة. لقد أوجدت البشرية مبررات لأفعال الشر ودعمتها بقواعد ومبادئ مضللة والتي تسيطر عليها عوامل عدة مثل الجهل والضعف والعاطفة والشعور بالذنب كما يقابله الرضا والكثير من العوامل التي يرزح تحت وطأتها الكائن البشري.

لقد أعطى المسلسل مبررًا قويًا لترسيخ عنصر الشر في الحياة البشرية، وقد اعتبر الآخرون أنه يطرح صورة العنف بلباس الإجازة والضرورة في البقاء، وأنه تجاوزًا لما بعد مفهوم الصراع بين الخير والشر؛ ليصبح الشر ضرورة وجودية في الحياة، وكأنما يؤكد النظرية الكانطية (نسبة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط) التي تزعم بأن "الإنسان شرير بطبعه"، والتي من خلالها نستنتج أن فعل الخير عند الإنسان هو نتيجة الترف أو المجاملة، ولكنها ليست عقيدة ملحّة في سلوكه.

إنَّ طرح مثل هذه المسلسلات مثل "لعبة الحبّار" أو فيلم (Most Dangerous Game)، هي وسيلة أخرى لما تنبأ به الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي منذ فترة مُبكرة تعود إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي في كتابه "الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة" باستراتيجياتها العشر من أجل الاستعمار الباطني للشعوب.