في حضرة الموت.. إلى روح أبي طفول

يحيى الناعبي

يبدو أنَّها المكالمة الأخيرة ولم تكن ضمن الحسابات التي لا أجيدها بمثل هذه المناسبات. كان صوتك قادمًا من بعيد لكنه شامخا يشرح بثقة تفاصيل الدوخة المباغتة ويبدو لي أنها لم تكن ضمن حساباتك أيضاً، ثمة مطر بالخارج باهت وحزين، قطراته تنتحر على الأسفلت وأنا أرقبها مثقلا بالحزن.

كان صوتك أشبه بتلك السحابة التي تمطر آنذاك، عميقا وساخرا لكنه حزينا. في تلك اللحظة، كنت أجمع قواي السمعية لتركيب مفرداتك التي بدا عليها التعب والتلعثم. فجأة وجدتني أستمع لموسيقى تخرج متزامنة مع أحرف كلماتك. هي دقائق معدودة لكنها كانت كالأيام، ربما لأن الذاكرة مُحمّلة بموسيقى روحك المغمورة بالإنسانية النادرة، كنت كالشجرة التي تعاند طبيعة المكان القاسية لتتفرد بشكلها وإخضرارها وعطرها.

لا أستطيع تذكر كل شيء حول تفاصيل تلك المكالمة، لكنني لم أشأ حينها أن أكون تشاؤميا ولم أترك لمخالب الحزن أن تنهش اللحظة، لكن أيضا أستطيع أن أتخيل أن جسدي الأثيري كان يحوم في مكان آخر بينما أنا مسمر على الكرسي وأمامي الحاسوب ومشهد انتحار قطرات المطر من النافذة. لقد أبحرت بعيدا نحو أحد لقاءاتنا النهارية أمام بحر عُمان، وذلك الحديث المصحوب بضحكاتك أو لربما أصفها بدقة أكبر الابتسامة الساخرة على هذا الكون.

حديثك عن ماذا؟ لا أعلم، لكنه لا يُملّ.  ففي عالمنا الصغير حوادث وقصص كنت من بينها القصص التي لم تحيّر القارئ كثيرا، كانت تنسج خيوط النهايات على الأسطر الأولى منها، كنت واضحا وشفافا.

إن الغمامة التي حملت ذكرياتك ذلك اليوم والتي جاءت لتسكب لي دموعها قادمة لتودعني، تركت بداخلي جرحا عميقا، أستطيع أن أبوح لك ذلك وأنت هناك في البرزخ الآخر تستمع إلى موسيقى الغياب وتوقظ العصافير كل صباح.

إن الغياب الذي خلّفته وراءك قد يؤلم الكثير بلا شك، ولكنها الأشجار تخلف وراءها الثمر ثم تودعهم أو يودعونها فالفراق لا محالة. وأن الأسى الذي يجرح القلوب سوف يُثمر برغم قسوته، تلك الذكرى التي ستُلازم الأحياءَ حتى تنتهي رحلتهم أيضاً. وكم من المحظوظين جدا من يبقى طعم ثمارهم الشهيَّة في أفواه الآخرين، في زمن أشجاره المرّة تزداد في الأراضي البور. وقد فعلتها يا صديقي.

أن نمني النفس بالذكريات الجميلة هي عزاء المغترب، لذلك تبقى الذكريات الرائعة لمن أحببنا ورحلوا عنّا مستمرة لأننا مع كل غروب نجد أطيافهم تهلّ علينا فيتحول اليوم من ماضٍ إلى حاضر. ومع كل غيمة تصحب معها موسيقى المطر يكون حضوركم أقوى، فالمطر بهجة لا مثيل لها يعطر الأرض فيخرج منها ذلك المسك فواحاً من ذكراهم.

إن الزهور التي غرستها في نفوس من أحببت وأحبوك ستبقى خالدة في مهجهم وهواجسهم، ولن تتبلد أرواحهم. إن أهم ما تمتاز به النفس البشرية هي الذكريات الجميلة مؤنسة الوحدة حيث ينفصل عالم الجسد عن عالم الخيال، وتبدأ الذكريات في مدّ الجسور الخفية بمشهدها العميق، في كثير من الأحوال يعجز وصفها. ألم يقل نجيب محفوظ "الحياة فيض من الذكريات تصبّ في بحر النِّسيان، أما الموت فهو الحقيقة الراسخة".

الذكريات قصيدتنا التي لم نكتبها ولن نستطيع كتابتها؛ لأنه عند فعل الكتابة تغيب، فهي تعيش بين الحضور والغياب ولا نستطيع أن نجمع بينهما. إنها القصيدة التي نحلم بكتابتها ونحن نيام وعندما نستيقظ نجد أنفسنا مبللين بالبكاء ولا نتذكر منها غير ذلك الفعل الذي لا نتذكره فنغرق في البكاء.

في حضرة الموت نعجز عن كل شيء، تتماهى مشاعرنا وتختلط أحاسيسنا لأنها الحقيقة الأوحد في الوجود. هو مثل الليل مظلم، ولكنه ملاذ العشّاق، طويل، ولكنه مختبر الأحلام. إنه الموسيقى التي عجزنا أن نفك رموزها ولم نميز رتمها، وفقدنا مع إيقاعها الكلام. فالصمت هو الاستجابة الأوفر في حضرة الموت.

في حضرته نضحك كثيرا حتى نصاب بالتبلد أو الخوف. في حضرتك أيها الموت تنتهي كل القصائد التي كتبناها أو وددنا لو كتبناها.

ما زلت أتذكر جملة قالها أحد الممثلين لا أستطيع تذكره لكنها راسخة في مخيلتي "مع الموت تبدأ قصة أخرى لم يتناولها واقعنا ويعجز عن تفسيرها الخيال".

في حضرة الموت، لم أستطع أن أعزي أصدقائي فيك.