لماذا الدكتوراه؟

 

د. حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

سؤالٌ طُرِح عليَّ مراراً وتكراراً، عندما عرف بعض الفضلاء حصولي على الشهادة العُليا (الدكتوراه)، وما زلت على رأس عملي، أقبع في مكتبي، لم يتغير مُسمّاي الوظيفي، ولا أُخفيكم أنَّه قد استهلك مني وقتاً وجهداً للجواب عليه، وكان آخر جواب مرتجلا لي قذفت به جبهة سؤال من سألني السؤال نفسَه، لماذا درست الدكتوراه ولا تزال في العمل نفسِه؟! فقلت له مُداعباً لأنظّم بها شؤون هذه الحياة المُبعثرة الأشلاء، ولأُسكِّن بها هذي النفس الجموح التي لا ترضى بالقليل، ولا يُشبعها الكثير.

فرأيت من المُفيد جداً أن أُعمم جواباً، يكون صالحاً للسؤال نفسِه في مُختلف المناسبات.

فاستأذنت القلم، وأبيت عليه إلا أن يفعل ما آمره به ليخط جواباً للأولين والآخرين، وإلا سيسجننّ في غمده، وليكوننّ من الصاغرين المُبعدين عن يدي؛ فأقبل ومداده يغلي في بطنه كغلي الحميم؛ فهوى بسّنه على صفحة بيضاء يخط ذلك الجواب بكل ثقة واطمئنان، وقد أفحم به المتقدمين والمتأخرين، وما عادوا يسألون السؤال نفسه، وما عادوا يُلمّحون به.

إنّ حصول البعض على شهادات عُليا (ماجستير أو دكتوراه) لا يعني بالضرورة، أنَّ كفاحهم ذلك من أجل الكراسي الوظيفية الدوّارة، والتي أرهقها تسمّر بعض الموظفين عليها، وتشبثهم بها، وعدم مُفارقتهم إياها، وتنمّرهم بسببها على من دونهم، {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}، وتحرشهم بذوات الخدور، اللواتي زجّت بهن الحاجة أو زجَّ الآباء بهن، جهلاً منهم بالعواقب الوخيمة، أو طمعاً في رواتبهن، وكأنّ عُمان لم تنجب غيرهم، يصلحون لتلك الكراسي التي أرهقها قعودهم عليها، وأزعجها استغلالهم لتلك الكراسي بلا فائدة تُرجى للوطن أو المواطن.

إنّ كفاحنا كان ولا يزال من أجل العلم نفسِه، مع ضياع النِّية وسط زخارف هذه الدنيا في بعض الأحيان،(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}، فإنَّ من أعظم المكاسب، وأجدرها اهتماماً أن تعيش ساعات عمرك طالباً للعلم، مسائلاً العلماء، وباحثاً ومنقباً عن كل ما هو مُفيد وجديد، حينها ستشعر بلذة الحياة، وجمالها، وتستمتع بها أكثر ممن فاتهم ذلك البحث والتنقيب، ومساءلة بطون المجلدات، ومناقشة آرائهم.

إنَّ هذه الحياة لا تعطيك ما تريد من خزائنها المبثوثة في الطرقات بسهولة، إن لم تكن متسلحاً فيها بعلم نافع قابل للتجديد والإضافة يوماً بعد يوم؛ فغير المُتعلم كالأعمى يخوض وَحْل هذه الدنيا بغير بصيرة وهدى يسقط تارة، وينهض تارة أخرى{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}؟!

إنّ المتعلم -أيا كانت شهادته- إن لم يخدم المجتمع بمعارفه ومواهبه التي استقاها، مهما كان منصبه، فلا خير في مؤهله الذي يحمله، فالذي يريد أن يخدم وطنه لا يحتاج أن يتقلّد منصبا حتى يقدم لوطنه ما يعلمه ويدركه من فنون، بل عليه أن يبوّأَ نفسه مبوّأَ صدقٍ، لا ينتظر من الآخرين أن يأذنون له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر ما اكتسبه من علوم، ويوجّه، وينصح، ويرشد، وينتقد بالحكمة والموعظة الحسنة، وعليه كذلك أن يكون مرابطا على الثغر الذي يُخشى أن يُؤتى الدين والوطن من قِبَله.

ومن جهة أخرى، فإني أتفهم جيدا طرح مثل هذا السؤال، من قبل الآخرين، لحملة الشهادات العليا، طمعا منهم بما يمكن أن يقدمه المتعلم من آراء جريئة، وسياسات حكيمة ونظرات ثاقبة قد تفيد المؤسسة التي يتربعون على عرشها، أو من باب {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.

وإلّا فأمانة العلم فوق المناصب، وفوق ما نتصور، وما لا نتصور.