الآباء والبنون

 

جيهان رافع

قال علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه: "يجب أن تُشفق على ولدك من إشفاقك عليه"، و"من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره".

******

كثرة الخوف على الولد تصنع منه إنسانًا يخاف كل شيء، ونظن أننا بخوفنا عليه سنحميه من كل العثرات ولا نعلم أننا نجعله يعتمد على غيره في كل خطوة فيتعثر بأي دربٍ يسير به، وحتّى في اتخاذ القرار فهو سيبقى مترددا طوال عمره إذا ما وجد طريقةً يخرج من هذا المطب باعتماده على نفسه وعلى قوَّته.

ماذا يعني -بنظر الطفل- إهمال وانشغال الأب أو الأم أو كليهما معًا عنه بالعمل أو باهتمامهم بأخيه أكثر منه؟

الإجابة عن هذا السؤال طويلة الظل، واسعة المدى، فائقة التركيز.

إذا تركنا الإجابة للآباء بالنسبة لانشغالهم في العمل سيُجيبون بأنهم منشغلون في الحياة والعمل لأجل الأبناء؛ فما بوسعهم أن يفعلوا لهم أكثر من ذلك، يكفي أنهم يسخِّرون حياتهم لجمع المال وتأمين أولادهم من غدر الزمن -على حد تعبيرهم- ونسوا أنَّ الإهمال سيجعل من الأبناء عُرضة للانجرار خلف ملء الفراغ بأي وسيلة، وأخطر وسيلة هي الميديا التي تؤدي ببعض الأبناء للتطرف والانسياق خلف أفكار تقودهم لما لا تحمد عقباه، وأحيانًا إلى الابتزاز الجسدي والاضطراب النفسي.

والمشكلة الأكبر التي يُعاني منها بعض الآباء هي عدم الاعتراف بالفجوة الفكرية التي أحدثها بين الآباء والأبناء جنون وسرعة تطور هذا العصر، فبدل الاعتراف بها والسير مع فكر الابن ومتطلباته العصرية ومنحه مساحة حرية صغيرة، يلجأ بعض الآباء للتعنيف وفرض قوانين صارمة في المنزل إلى حد منع البنت مثلًا من استخدام الإنترنت أو منع الطفل منه أيضًا منعًا باتًّا؛ وبذلك ينسى الآباء أن الطفل سيتطور عنده الكذب من "كذبة بيضة" إلى عادة يومية، وربما تبقى هذه العادة معه إلى أن يكبر ويقع في مطبات كثيرة، أو سينمو الحقد عنده لأنه اقتنع منذ صغره أن والده حرمه من شيء كل رفاقه يتمتعون به.

ومن ناحية خطيرة أيضًا رُبما لم ينتبه إليها البعض، فإنَّ إهمال طفل والاهتمام بأخيه مثلًا وارتكاب حماقة التنمُّر أحيانًا كي يجعلوا من أخ يشبه أخاه الذي يحبون فيه طبعا معينا، أو يحقق نجاحا معينا، فتبدأ مأساة الطفل النفسية، سمعنا كثيرًا عن التنمُّر في المدارس والميديا والحياة الاجتماعية، وكثيرة هي البحوث التي قدَّمت نصائح وتقارير عن ذلك، لكن لم نبحث عن التنمُّر الأسري أو العائلي الذي هو أشدُّ فتكًا بنفسية الطفل، هناك حالات كثيرة تستحق الوقوف عندها والإضاءة عليها.

تشتُّت البعض بين المفاهيم القديمة وأصول التربية والاعتراف بوجوب المسير بطرق تحديثها بشكلٍ لا يدع زمام الأمور تفلت من أيدينا، وعدم الاهتمام بهذا الجانب يؤدي لنشأة غير مرضية وربما نكون عن غير قصد نصنع العدوانية داخل الطفل، ففي قصص واقعية عاش البعض معاناة الاختيار السيئ للأسلوب التربوي، ونشأ على التفرقة بينه وبين أخيه مثلًا أو حرمانه من أكثر الأشياء المحببة إلى قلبه بقصد التربية الصحيحة، فينسى الآباء أخطاءهم فيستعظمون أخطاء أبنائهم، مثلًا: طفل يحب الموسيقى، وأخوه تفكيره علمي رياضي؛ فالأول إذا ضعف في مادة الرياضيات يستحق عقاب التفرقة والتنمُّر بنظر والديه ومقارنته دائمًا بأخيه كي يكون مثله متقدما وجيدا جدًا في المواد العلمية، وهنا تكمُن المشكلة، وتبدأ بالتضخُّم دون أن نعيرها انتباهًا، حتى تصبح ردة فعل الأول تأخذ منحى قلة الاحترام مثلًا أو الكره أحيانًا، وبذلك نُحدث شرخًا كبيرا في علاقة الأخوة ببعضهما، ثم عندما يكبران ونرى ما فعلناه يظهر على تصرفاتهما نندب تربيتنا لهما، ونندب حظنا على وجود ابن غير جيد التربية.

الرِّفق بأبنائنا يجعلهم يحِنُّون علينا من قلوبٍ عامرة بالمحبة والسلام والدفء، بدلًا من الشعور بأنه مجرَّد واجب يقومون به تجاهنا في كِبرنا؛ وذلك سيجعلنا نتألَّم على ما صنعناه بأنفسنا وعلى ما وضعناه بقلوبهم.