قصة واقعية

جيهان رافع

من واقع الحياة، ومَنْ يقرأ أحاسيسنا من خلف كواليس كلماتنا نكتُب، كرماد السجائر، نفتنا العواصف خارج السرب.. أريد ظِلاً لا يغطي الوقت، أريده أن يرافقني بهدوء وسلام.

أمام دُكان أبي مدين أقفُ -كما العادة- قبل الدخول إليه، أتفحص هذا الرجل الستينيّ الذي كسا مقدّمة رأسه بعضُ الشعر الأشيب، متروكاً من زوجته منذ حين، على ضفاف الذاكرة يقاوم من مكتبةٍ صغيرة، على رفوف دكّانه صدأ أعوام وحدته التي كُنت أسمع صوتها في تقاسيم وجهه كلما أمرُّ به، فأجده يلتهم الكتب بعمق وجداني ودمعةٍ غضّة، وعلى يمينه فوق رفّ صغير محايد الإنجيل والقرآن، وقد وضعهما على شكل أوسمة في علب أنيقة.

هو قارئٌ متعددٌ جميلٌ يغوصُ في الفلسفة حيناً، بينما تراه يقرأُ الشعر والروايات في أحيان أخرى، هذا مع اطلاعه الكبير على التاريخ والأديان، مما جعل منه مثقفاً راقياً، وما إن َيحكم عليك بالمثقف أو الواعي تراه يتكلم ناطقاً بعربيةٍ فصحى ترسم على وجه كل من أمامه ابتسامة احترامٍ وتقدير لهكذا رجل.

كم كنت أشعر بالراحة عندما أزوره، وأحياناً أشعر بالملل إذا ما فتح باب نقاش، فأحاول التهرّب بحجة انشغالي، ليتركني هارباً مع راحتي، مبتسماً لي وهو العارف بما يجول بخاطري.. تعلّمتُ منه ما كنت أعتبره آخر اهتماماتي، ورأيت به موسوعة لأكثر من طريق للصبر والجَلَد حتّى أحقّق ما أريد، لقد علّمني كيف أنّ لكلّ شيء وقتَه.

كُنت أقطع أمام دكانه كلّ يوم تقريباً، حاملةً مرسمي الخشبيّ، ولوحتي التي لففتها بقطعة بيضاء من الدامسكو الدمشقيّ النادرة، كجوهرة من صندوق جهاز أمِّي المقفول على ذكريات أبي، والتي أحكمتْ إغلاقها على حبِّه...استوقفني أبو مدين بسؤاله الفضوليِّ هذا اليوم:

- أما زال جنونك يقودك إلى غابات انتظارها؟!

في كلّ مرّة يسألني أقف أتأمّل وجهه الأبيض المحمرّ كوجه عذراء في قُبلتها الأولى... تُرى لم يرَكِ دائماً في مقصدي للرسم؟! هل أنتِ واضحة الحضور بين خطواتي نحو ذكرى لقائنا الأوّل، أمْ أنّني لم أنجح بإخفائك في نظرتي وطريقة مزاولة حياتي إلى العادية من دونك؟!

أُجِيبه بمراوغة الجاني: ألا يوجد لديك قهوة مُرَّة كأيّامنا من دونهم؟! فيجيبني ومرارتها بدت على ملامحه:

- لكِ ذلك؛ فقهوتي أشدّ سواداً من ليلي.

وكأنَّ سؤالي وجوابه لازمة دائمة لإنهاء حديث بيننا، أو تغيره.

(على جسر اللوزيّة تحت أوراق الفيّ، هب الغربي وطاب النوم وأخذتني الغفويّة)

كانتْ فيروز تصدَح من مذياعٍ قديم بهذه الأغنية التي أحبّ بصوتها الحاضر في كل الأوقات. تناولت رشفة من فنجان سَكَبه لي، فارتجف رأسي -كما العادة- من مرارتها، أنا الشاربة للقهوة المحلّاةً بقطعة من السكّر، والرافضة الآن للاعتياد على مرارتها كما عِنادي مع مرارة الحياة.

- وماذا بعد؟... سألتُه، ولم أنتظر الإجابة حتى، بل شردتُ عنه بما سيدور بيننا دون شك، سيقول لي بهدوء الكبير المسن، إنَّ المصيبة ستعبر ونعود كما كنّا، وسأقول له إنني لستُ بواثقٍ أبداً، فيخاف علي كأبٍ حنونٍ وينتقل للحديث عن معرضي ربما.. يسألني متى سيكون؟ وسأجيب بأنني أنهيتُ رسم كامل اللوحات، ولكن لست بالمتحمسة لهذا؛ لأنّي أظن بأن حال الناس ونفوسهم لا تتقبل حتى مشاهدة اللوحات؛ فكيف تتقبل مشاهدته حاملاً دفتر مذكراته الذي أعاده إليه أحد اللاجئين الذين كانوا معه على متن قارب مطاطيّ في رحلة اللجوء، التي أخذت ذاكرته بحادث، تدافع مسرعاً عاد إلى الكامب (المكان المخصص للاجئين) وأخذ يحدث نفسه، ما كل هذا الغبش الذي يجتاح صدره وكأنَّه يسير عاريًا، وذاكرته تشبه الصحراء، ولا يشبهه شيء سوى ذلك المِقعد الفارغ الممدّد على الرصيف المقابل للحياة كجثّة تنتظر دخولها اللحد، فقدَ ما هو أهم من ذاكرته، لقد فقدَ الطريق للوصول إلى ماضيه ولمستقبله، فغدا الحامل لهواجسٍ، لا يدرك منها شيئاً، ضائعًا تماماً لا يملك عنواناً.

وبكل الرجاء، يُحدِّث ذاكرتَه: انهضِي، أرجوكِ انهضي، ولا تتركيني مُضرّجاً بالخيبة عاريَ اللون والهويَّة، كفاكِ خفراً، فلا أريد ذاكرةً خجولة، اخلعي النقاب وتمرّدي على كلّ الجدران والحواجز والمسافات. فمن سيكون أميناً عليك مثلي؟! لا تهربي من ثنايا الوقت كما يهرب الضوء من حلمي، اخرِجي العويل وامتشقِي النور لكَوْنِي، لمَوْطِن عقلي وجسدي أرجعيني.