نمضي والأرض باقية

جيهان رافع

من بُقعة في هذه الأرض يتحدَّد موقعنا الجغرافي، ومن حب الأرض والوفاء لها يتحدَّد موقعنا في الحياة، نحن عابرو حياة والأرض أزلية، نمضي وهي باقية.

"الأرض تُحبنا حدَّ استعادتنا ذات يوم، وتحب الزرع حد احتضانه لينمو ويثمر، وتحب المطر فتستدعيه إليها ويحبها فيلبّي" (منقول).

وقال أحمد مطر: "أنا الأرض التي تُعطي كما تُعطَى.. فإن أطعمتها زهرًا ستزدهرُ... وإن أطعمتها نارًا.. يأكل ثوبَكَ الشررُ".

على مسارحها نلعب أدوارنا بإتقانٍ لنبقى على قيد الحياة، ولكن كل منا يلعب دوره بطريقة مختلفة، وبشخصية تمثله وحده ولا تمثل غيره لو أتقنا فن المعرفة بعمق هذا التعبير ولم ندخله في متاهات التقاليد والأعراف، فنحن نمثل ذواتنا فقط، الخير الذي نقوم به لأنفسنا والشر الذي نقوم به أيضًا لأنفسنا، ومصيبة المفاهيم الخاطئة لتلك الأدوار وحدودها هي التي تجعل من شخص يدين الآخر على طريقة تفكيره أو على دينه، لو أننا نبقي أنفسنا بمنأى عن تلك المطبات لما جاءت جماعات لتعيث بالأرض خرابًا بحجج عدّة، كالأديان والتكفير والتفكير والعلم، الأرض لها حقوق علينا كما لنا تمامًا، لأن بقاءها بخير يؤدي إلى الخير لنا ولحياتنا.

"فكّت الأرضُ أزرارَها وسارتْ.. حرّةً في خُطانا.. عندما سألتنا وقلنا: نعرفُ الحبّ يا أرضَنا.. جبلنا طيننا من هباء مسافاته وجبَلْنا.. فتنةَ القمر المُتشرّد في طَمْثهِ بأوجاعنا، ورسمنا... كلّ ما لا يُرى من تقاطيعه، بتقاطيعنا.. هي ذي أرضُنا" - (أدونيس).

منها خُلقنا وإليها راجعون، فلِمَ لا نكرمها في حياتنا كي تكرمنا في مماتنا كي تحتضننا راضية عمّا فعلناه لها وبها؟

الوطن مساحة محدودة على الأرض، ومن يعشق وطنه يعشق أرضها، ومن يزرع وطنه في قلبه وطنه يحصد الخير منها أينما حل، وأينما كان عمله فسعيه سيثمر مئات الأضعاف إذا كان وطنه حيًّا لا يموت داخله.

قال تشي جيفارا: "لا يهمني أين ومتى سأموت، بقدر ما يهمني أن يبقى وطني....". مَثلُ الذي باع بلاده وخان وطنه كمثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا والده يسامحه ولا اللص يكافئه.

عندما يمُوت الإنسان، تقول الأرض: ها هو ابني رُدَ إليَّ، فهي لا تفرّق بين ابنها البار وابنها العاق ولا تفرّق بين ابنها المجتهد المكافح الذي ناضل كل يوم من أجل لقمة عيشه ومات فقيرًا وبين من خُلق في فمه ملعقة من ذهب ومات وهو فقير الرحمة والعطاء.. هي لا تفكر من نحن وكيف كنا لها أوفياء أم خُنا ما قدّمته لنا، وعثنا بها دمارًا، ووقفنا مع من لوَّث فضاءها ولوَّث ماءها وترابها؛ فصارت تصرخ من شدّة الألم: يا أبنائي أنا الأمُّ فلا تجعلوني أشيخ من أفعالكم ويجفّ جوفي وقلبي فيهجركم الخير كما هجرتم محبتي.