أمةٌ من دموع

 

غسان الشهابي

لا أدّعي أني من عُلماء الأنثروبولوجيا، ولا من دارسي ثقافات الشعوب، ولا من المطلعين بعمق عليها، ولكني أرى أننا – كأمة عربية – خرجت من النوستالجيا، أي التوق إلى الماضي، وانتقلنا – منذ زمن بعيد – إلى العيش فيه تماماً، وعدم الرغبة في مُفارقته، على اعتبار أن ليس في الإمكان أفضل مما كان في ذلك الوقت الذهبي، البهي، أو ما يقال عنه حدّ الابتذال "الزمن الجميل".

تصور لنا أذهاننا عندما نرى صورة أحادية اللون (بالأسود والأبيض) أن الناس كان يعيشون في بحبوحة، ورغد العيش، وأنهم خالون من الهموم، حياتهم مرح وضحكات، وأيامهم حبور ومسرّات، ولياليهم بالسمر والقصص الجميلة الساحر عامرات. نعم الأمور كانت بسيطة، والأموال شحيحة، ولكنهم كانوا على درجة عالية من القناعة والرضا، ما يجعلهم ينامون وصدورهم منفتحة منشرحة لا يثقلها التفكير في الغد، ولا مراجعة النفس لئلا تكون قد ظلمت أحداً.

وهذه الصورة الخيالية بعيدة كل البعد عن الواقع، لأنها – في المقام الأول – تصور الناس في ذاك الزمان وكأنهم بهائم، لا يوسوس لهم الشيطان، ولا يمسّهم إنسٌ ولا جانّ، مع أنَّ السابر قصص الأولين سيرى أشكالاً للظلم لا حدّ لها، وأمراضاً تفتك بهم لا يستطيعون لها دفعاً، وتسلطاً على العباد، وظلماً بيّناً للمرأة إن طُلقت أو ترملت، وأكل مال اليتامى بالباطل، والسخرة، وهي لا تزال تحدث في المجتمعات العربية الديكتاتورية الهشة، ولكنها في الماضي دونما رادع، ولا يعرف عنها إلا من هم في الدوائر الضيقة.

الأمر نفسه ينطبق على التأوّه والتفجّع على الماضي عندما كان الأردن يصدّر القمح للولايات المُتحدة، وعندما كانت القاهرة أنظف من المدن الأوروبية الرئيسية، وعندما كانت بغداد... وماذا كانت مكانة دمشق في بدايات النهضة، وموقع بيروت في الستينات بالنسبة للمثقفين العرب، وكيف قادت الكويت قاطرة الثقافة والتغيير في الخليج في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهكذا تتناسل الذكريات، المصاحبة بزفرات تذيب الفولاذ لفرط حرارتها، وتقليب الرؤوس، وضرب الأكف حسرة على ما راح وانقضى.

لو تتبع المتباكون منِّا أسباب الانحدار عمّا كنَّا عليه بالأمس فإنَّ الأمر لن يخرج من دائرتنا، صحيح أن هناك من يغرينا بأن نتخلى عن الأفضل، وهناك من يريدنا أن نبيع ما في اليد أملاً بما في الغد، وهناك من زيّن لمن سبقونا التخلي على الحالي والشروع في قفزة في الهواء لا أحد يعلم إلى أين ستؤدي، ولكننا من قبل بذلك. نحن أعني شعوباً وقبائل وأنظمة وحكومات، لنا عقول لا نُعملها بالتفكير، ولدينا علماء ودارسون نسند أبحاثهم على الرفوف من دون قراءتها، وإن قرأنا لا نُطبق، وإن طبقنا أتى من ثمارها إلى جيبه الخاص، فأهدرنا الفرص تباعاً، وضيعنا السنوات تلو السنوات، واجتهدنا في استهلاك أجمل ما لدينا في كل شيء، ثم نعود لنسترجعه فنشوّهه... وهكذا يكون ما لزماننا عيب سوانا، وسوى مدامعنا التي لا يتوقف سيلها، وليس لأننا عرفنا تفريطنا وإسرافنا في أمرنا فتوقفنا عن تسرب الباقي من الأمور الحسنة، ولكننا اليوم أكثر إسرافاً في التفريط، لنكون أكثر حرقة غداً في البكاء.