كل هذا الزمان الضائع؟!

 

غسان الشهابي

يقال إنَّ التاجر المفلس يبحث في دفاتره القديمة، إذ ربما مع البحث هنا أو هناك يجد بعضاً من المال قد نسيه ليستعيده. كذلك الصحف التي تذهب إلى الماضي لتخرج ما في الأرشيف حتى تُثير الحنين لدى القراء، وترجعهم إلى عصور مضت. الأمر نفسه يفعله الكتّاب، وخصوصاً اليوميين منهم – الذين يحدث أن تشحّ لديهم الأفكار، ويُرتج عليهم، فلا تواتيهم فكرة جديدة، فينبشون مقالاتهم القديمة ليأتوا بأحدها ويعيدون تزيينه وتقديمه من جديد.

ما بين أيدينا اليوم شيء من كل هذا، فهو أسف على كل هذا الوقت الذي أضاعته أمتنا وهي تلوك الحكايا نفسها، والأقاويل نفسها، تحذّر نفسها وهي ماضية إلى الخطر، ترمي بنفسها من شاهق وهي تلعن الانتحار والمنتحرين.

ما ذكرني بهذا الأمر هو ما أرسله لي الصديق العماني (شبه البحريني) الدكتور محسن بن حمود الكندي، وهو أحد اشتغالاته على الصحافة العمانية المهاجرة، وإذا بقصاصة صحيفة تعود إلى 72 عاماًـ أرخت في 18 يناير 1949، تحمل كلمة للسلطان سعيد بن تيمور ألقاها عبر إذاعة البحرين بمُناسبة افتتاحها، نقلتها صحيفة "الفلق" الزنجبارية، جاء فيها (وهذا هو الأهم): "أيُّها العرب، إنَّ العالم يعاني اليوم أزمة هائلة لم يعرف مثلها في غابر أيامه، ولعلكم توافقون أنَّ الأقطار العربية ليست فيما يظهر بمعزل عن نتائجها السيئة، وما هناك قوة تستطيع أن تدرأ تلك النتائج غير قوة الاتحاد والتضامن والعزم والحزم والثقة في النفس بعد نبذ الخلاف والضغائن والدس والمكائد (...) يشهد العالم في أيامنا هذه صراعاً عنيفاً بين قوتين عظيمتين هما الديمقراطية والديكتاتورية، إلا أن الأمة العربية بحكم عقيدتها وطبعها تؤيد الديمقراطية في كل شيء، وتتصل مع الأمم الديمقراطية اتصالاً اقتضته المصالح المشتركة".

هذه القطعة من الخطاب، تصلح – مع بعض الرتوش – لتقال اليوم بعد أن قيلت طوال الفترة الماضية، إذ لا يزيد شيء أو ينقص مما قيل قبل سبعة عقود عما هو حاصل اليوم، في الوقت الذي شهد العالم بناء مصالح وتكتلات، وتغيرت دول وأنهارت أخرى وامّحت ثالثة، وتحركت الأقطاب وتوحّدت ثم تعددت، نهضت قوى عالمية اقتصادياً وعسكرياً، وانقلبت العلوم والتكنولوجيا ما شاء لها أن تنقلب طيلة العقود السالفة، وألغيت وظائف، واستحدثت أخرى، وغاب الفاعلون على الساحة السياسية والثقافية الذين كانوا في أوج مجدهم في العقدين الرابع والخامس وما بعدهما، وظهر آخرون ربما أقل لمعاناً أو أقل تفرداً، ولكن كل جيل يدّعي أنه آخر المدافعين عن الأصالة، وارتفعت حرارة كوكب الأرض، وغزتنا الأمراض الجديدة، وتوحدت عملات معظم الدول الأوروبية، وتطاولنا – نحن البدو – في البنيان، تحولت أنهارنا الرئيسية في الشام والعراق ومصر، أو قريباً ستتحول إلى جداول ليس إلا، واجتاحنا الجراد مرات عديدة...

كل هذا، ونفس الكلام الذي قيل قبلاً لا يزال يُقال. كانت هذه الدعوات تبدو بكراً في زمانها، أصدق نبرة، وأوغل في النفس. شهدنا أياماً كانت الخطابات الحماسية تقشعر لها الأبدان، وتصعد معها الدماء إلى الرؤوس، ويشعر الفرد منِّا أن التغيير الأفضل قادم لا محالة، ويشد عضلاته مستعداً للحاق بما سيأتي.

ها هي السنوات تمرّ، والعقود تتوالى، ولا نزال نعدّ الخطابات الرنانة اليوم وغداً عن أهمية الوحدة، وحتمية التكامل، وضرورة التنسيق، وفوائد الديمقراطية.