قصة التطبيع العربي والبيت المحسود

 

ناجي بن جمعة البلوشي

لست قاصاً ناجحاً بما فيه الكفاية لأضع بين يدي القارئ الكريم قصة تشده وتجذبه إلى الخيال القصصي والمتعة التي توصله إلى الشغف في متابعة القصة وانتظار ما سيجري ويحدث بعد كل مشهد من أحداث، لكني سأضع فرصة للمفكر الكريم أن يتصور ما أعنيه حقاً بهذه القصة التي لا توصل إلى شيء أكثر من وجود الفكرة في داخلنا والانتقال بها إلى كل مكان وزمان دون الخروج عنها أو الهروب منها والانتقال إلى أفكار تكون أكثر واقعية وحقيقية لذلك نكون في سكنات مخيلاتنا وقناعاتها الصادقة في كل الأحيان دون تفنيد إن كانت هذه هي الحقيقة أو ليست هي، إنِّها الأنفس إذاً هكذا تكون لا تعنى بما لا تعنى به.

ولنبدأ قصة البيت المحسود بكتابة اسم من أسماء النَّاس الذين لا نظن أن يكون له دعوى من اسمه سوى التعريف بأنّ هناك شخص يدعى "اليائس" كان يعمل بجد واجتهاد لأجل إيجاد فرص عيش كريمة له ومنها يتكون عنده الضمان والاستقرار والهناء الدائم الذي سيسير معه في مستقبله الذي بدأ يبنيه بعد أن قدر الحياة التي يعيشها بمقدارها الحقيقي على أنها مكاسب دائمة، ووضع في مخيلته الإنسانية الضعيفة منطق رفضه التام لها على أنها تنازلات وحسب، كتنازلاته عن المتعة واللعب وضياع الوقت والسهر والتبذير وغيرها من التنازلات التي إن بدأها الآن سيخسر المستقبل الذي كرس له كل إمكانياته. هذا اليائس بعد مدة من الزمن فكَّر في أن يكون له أسرة لأن إيمانه بالمكاسب الدنيوية في حياته أصبح شأناً يُقدسه، فقرر الزواج وبالفعل وجد امرأة طيبة القلب رقيقة المشاعر وجميلة الخلق والأخلاق وبها من المواصفات ما كان يحلم به اليائس في زوجة المستقبل، ولإتمام هذه الصفقة والمكسب الجديد الذي خطط له اليائس فكَّر في بناء بيت رائع في المدينة المُكتظة التي يعيش فيها، وهي التي يُقدره النَّاس فيها ويعتبرونه نموذجا ناجحا بكل معاني الكلمة.

وبعد أن تمَّ بناء البيت قرر الزواج والانتقال إلى تلك التُّحفة المعمارية المشار إليها بالبنان، مرت سنة كاملة وهو يسكن ذلك القصر المُصغَّر دون أن تأتي على زوجته أي علامات للحمل وهذا يعني في منظوره أنَّه لم يحصل على مكاسب ذلك الزواج ففكر في الفحوصات الطبية له ولزوجته لكن زوجته غيَّرت ما يُريد اتخاذه من إجراء وقالت له إننا محسودون من أثر بناء هذا البيت الرائع ويجب علينا أن نبيعه ونسكن في بيت آخر إذا أردنا الذرية وهذا ما قاله لي كل النَّاس. فقرر بيع البيت والانتقال إلى بيت صغير مستأجر، ومن باب الصدفة أو مع مرور الوقت الذي مضى منه أكثر من سنة على زواجهما شعرت المرأة بعلامات الحمل وبشرته بهذا ففرح اليائس كثيرًا، ومع غمرته بتلك الفرحة مررت الزوجة خطتها في ترك البيت والذهاب إلى بيت جديد في القرية البعيدة قناعة منها في اكتمال الحمل وليتم الوضع. بدون أي حجة وافق الزوج على الانتقال وبالفعل تمَّ كل شيء ورزق اليائس بأول مولود وبعدها بأعوام صار معهم أولاد وبنات عدة محققاً بذلك الحلم الذي بناه في تكوين أسرة. لكن هذا لم يكتمل فمن باب الصدفة تفشى في تلك القرية فيروس وبائي يقتل الأطفال وبه مات اثنان من أولاده ودون معرفة السبب الحقيقي للموت قالت له زوجته إن أهل القرية يتحاسدون فيقتلون أولادهم وأولادنا، هيا لننتقل إلى الصحراء فهناك يمكن لنا تربية أبنائنا بكل طمأنينة. فعل اليائس ذلك فهجر القرية إلى الصحراء البعيدة وهناك عاش في خيمة بدائية هو ومن تبقى من أبنائه لكنه لم يسلم هذه المرة من الحيَّات والعقارب فمات من معه من الأولاد بسب لدغاتها اليومية، فقالت له زوجته إن هذا المكان سكن للجان ويجب علينا الفرار بأجسادنا، فقرر هو وزوجته الارتحال إلى الجبال والعيش في الكهوف وهذا ما حدث فعلاً ولا ندري هل هو متواجد في تلك الكهوف حتى يومنا هذا أم مات بسبب الحيوانات المُفترسة.

التطبيع والتنازلات العربية لا تختلف عن مُعتقد الحسد الذي كان في صدر اليائس وزوجته، فانتقلا به من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن، وفي كل مرة يقدمون فيها التنازلات ليغيبوا عن الحقيقة والواقع الحقيقي، فلو مكثوا في قصرهم لجاءتهم الذرية بعد صبر جميل، ولو بقوا في القرية لحصلوا على المصل واللقاح والعلاج أو لعاش أولادهم الباقون على أقل تقدير.

فالدول العربية تسير بمعتقد التنازلات الذي تعتقده في تفكيرها عند كل اتفاقيات تطبيع ففي سنة 1978 وقعت دولتان عربيتان اتفاقيتان للتطبيع مع إسرائيل دون أن يستعاد من الأخيرة أي شيء من الأرض المغصوبة سوى ما استعادوه هم بالقوة والحرب، وهو مشابه لنفس الحال اليوم فسنوقع للتطبيع مع إسرائيل لكننا لن نستعيد أي شيء مما كسبته وسيظل مكسبنا الوحيد هو أننا سنُحدد الجديد الأحدث مما كسبته إسرائيل بعد أن وقعت مع الدولتين العربيتين في السابق وهكذا سيكون في المستقبل سيوقع اللاحقون على التطبيع ليحددوا ما قد كسبته إسرائيل في المستقبل بعد توقيعنا لها في الحاضر.

أما إذا أردنا الاستفاقة مما نحن فيه فلنسأل أنفسنا عن ما هو الاحتمال الأسوأ الذي سيحدث لو لم نقم بالتطبيع معها من قبل أو اليوم أو في المستقبل؟  فأكبر الاحتمالات وآخرها هو احتلال فلسطين كاملة لكن في المُقابل اسرائيل ستكون في خوف وهلع مرعب ودائم، وهو العكس مما هي عليه اليوم فهي تملك الأرض وتملك السلام والأمان وستملكه في المستقبل عندما ستصل إلى آخر الاحتمالات المفروضة هنا لكنه سيختلف بما معها من اتفاقيات ومعاهدات ومواثيق.