يا أيها الانتداب... "تعا ولا تجي"

 

غسان الشهابي **

** كاتب بحريني

سيشذُّ عن النسق العام أي كاتب لا يتناول ما حدث في بيروت عصر يوم الثلاثاء الماضي الرابع من هذا الشهر المُكتظ بالكثير من الحوادث غير السعيدة على العموم، حتى بتنا نضع أيدينا على قلوبنا كلما أقبل أغسطس، للشديدين: حرّه وبأسه.

وعلى قدر ما فعلته الطاقة المُتفجرة من المرفأ من دمار وخراب في البنى التحتية والفوقية في بيروت، وهو أمر رأيته لأوَّل مرة في فيلم الخيال "اليوم الآخر" The Day After (إنتاج 1983) لما قد تفعله القنابل النووية في الأحياء والجماد، وقد فعلت "قنبلة الميناء" بالفعل الفعل نفسه.

على قدر هذا الألم المُمض، وهذه الرغبة المسعورة لإطلاق الحناجر لصرخة غضب مدوّية تلعن وتعلن تبرُّئها من هذه العبثية التي يمكنها أن تبدد أحلام النَّاس في ثوانٍ، وتطفئ أفراحاً وتزيد المأساة اللبنانية مآس؛ استغرب الكثير أيضاً – وخصوصاً من هم خارج لبنان – من توقيع حوالي 36 ألف شخص على وثيقة تقول لرئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، الذي – وحتى ساعة كتابة هذا المقال – لم ينزل غيره إلى لبنان من زعماء العرب: تعال استعمرنا مجدداً!

على قدر هذا الاستهجان، وخصوصاً ممن لم تلفحه سموم نترات الأمونيوم، ولم يتهدم نصف منزله، ولم يفقد أحبابه، أو أجزاءً من جسمه، ولم تنغرس شظايا الزجاج في وجهه وجسده؛ فإنَّ الحديث عن "أمنيات" عودة الاستعمار أو الانتداب إلى البلدان العربية ليس بالأمر الجديد. فلقد رأت الشعوب العربية ما فعلته غالبية الأنظمة التي تسلمت السلطة من بعد انتهاء عصر الاستعمار من نهبٍ شرس جداً للثروات القومية، وتحويل الكثير من الآثار والمباني التاريخية إلى أملاك شخصية، واستشراء الفساد العام والخاص في مفاصل السلطة والمجتمع، وزيادة مستوى الرّعب الذي بثّته الأنظمة الجديدة لأنها علمت الثغرات التي مرّت من خلالها لقضّ مضاجع المستعمرين، فلم تشأ أن يتكرر الأمر معها، والنظم الانقلابية لما نجحت في الوصول إلى الحكم لم تترك وراءها ما يسمح لآخرين أن يصعدوا السلم نفسه لينقلبوا على الانقلاب، فزادوا شراسة في القمع والقهر والتركيع والتخويف. وصارت البلاد مزرعة للقيادات على تراتبياتها، فكلما ارتفعت الرتبة اتسعت الرقعة التي يتحكم فيها أفراد النظام "الوطني" الجديد. وصار لدى الجماهير تشوّش، إذ كانت تقذف المحتل بكل ما لديها من سلاح، بدءاً بالرصاص وانتهاء بالحجارة، ولكنها اليوم ستقذف أبناء عمومتها، وأبناء جلدتها؟! وساد قانون السرقات من الأكبر إلى الأصغر، فلم تعد من قناة وإلا تم إفقارها حتى باتت بالأمس تحت المستعمر الأجنبي أفضل منها تالياً تحت "المخرِّب" الوطني، وامتدّ الأمر إلى التعليم حيث تم تسليمه إلى موالي السلطة بعيداً عن التخصصية، وهكذا المواصلات والأمن والدفاع والصحة والجمارك والطيران والعمل والتخطيط والطاقة وجميع المسؤوليات الأساسية، وما دامت المسألة متعلقة بالولاء فلا أحد سيسأل عن الكفاءة لأنَّ الكفاءة ليست معياراً، وهذا ما دفع أكثر الدول العربية للتدهور في السنوات التالية من بعد استقلالها أو خروج المستعمر منها!

هذا لا يعني أنَّ عهد المستعمر كان أفضل لأنه يضوع عدلاً، ولكن النظرة العامة للكثير من الدول العربية لترى أين كانت وأين صارت ستكشف عن هذا البون الشاسع المرعب أيضاً.

لهذا كله، فإنَّ لبنان الذي يعيش منذ عقود تحت نير أمراء الحرب أنفسهم، وأمراء السرقات عينهم، وأبطال الفساد ذاتهم، الذين نهبوا المقدّرات الشحيحة لهذا البلد، وارتهنوه للقوى الخارجية كلٌّ يستقوي بمن يقوّي مركزه حتى يستمر في السلطة ويستمر في الانتفاع؛ لم يعد قادراً على الوقوف قوياً و"سيّداً" كما يقول أبناؤه، ولم يعد أبناؤه يثقون بإمكانية مواصلة السير معه في الدرب نفسه، وبينما يسكن لبنان ستة ملايين لبناني، يُعتقد أن عدد اللبنانيين المهاجرين يصل إلى 11 مليوناً، وهذا رقم مرعب يشير إلى انعدام الثقة التي تجعل المواطن يتشبث بأرضه التي تتحكم فيها الأحزاب والطوائف ويقف "لبنان" وحده آخر صف الأولويات.

لن يعود الاستعمار أو الانتداب، فما هي إلا صرخة عاجز، ناطح برأسه الجدار، وسقط مرات من التعب، وأكمل "الميناء" بقية القصة.