بَيرُوت.. يا وجه الشمس

 

جيهان رافع

يا وَجْهَ الشمس لا ولن يحجبه دمارٌ ولا انفجارٌ، ولا غيمُ الليالي السود، ولا سياطُ الجلاّدين، ولا عارُ الاستهتار.

يا ستَّ الدنيا يا بيروت.. من باعَ أسوارَكِ المشغولة بالياقوت؟ مَنْ صَاد خاتمك السحريّ، وقصَّ ضفائرك الذهبيّة؟ من ذبحَ الفرحَ النائم في عينيك الخضراوين؟ عن أي شيء نتكلم يا بيروت، وفي عينيكِ خلاصة حزن البشريّة؟!

"ست الدنيا".. كما أطلق عليها نِزار قباني شعره، تحت ركام انفجارات الغضب الشعبي من القهر والأوضاع المعيشية والطائفية والسياسية، وانفجارات التدمير المكاني والسكاني، واغتيالات الفرح والسلام، رَزَحت بيروت منذ لا يقل عن أربعين عامًا، في دهاليز الحرية، عاشت بيروت تختبئ من الكارثة تلو الأخرى، تحاول استجرار كمًّا من الحياة الطبيعية الغربية التي كانت تحلم بها، فهي بوابة الشرق على الغرب، وليس من العبث جاء هذا اللقب لملكة الشرق. بيروت ناضلت وقدَّمت الكثير كي تبقى على عرش الزمان، ومنذ اندلاع الحرب الأهلية وهي لا تعيش الأيام، بل تحاول النجاة منها.

لبنان.. بلدُ الشعراء والإبداع، موطن الفن والأصوات الصادحة، مَوْطن وديع الصافي والشحرورة وفيروز، موطن البلابل والأنغام؛ فمنه انتثر عطر الألحان الرحبانية والناصيفية، به ترعرع زكي ناصيف، ومنه تعلّم الجميع فنون الدلال والغنج والحرية والجمال، وله وبه لن تجد شاعرًا أو كاتبًا إلّا وتصوره كائنًا حيًّا؛ فاجتمع في وصفه له سحر الصور وبديع المعاني ودرر الجمال، ويذهب بالشعر حتى يُؤكد على شخصانية لبنان، فيصفه بذي القلب والأهداب والوجه الجميل، وكل من أبنائه كان يعزّ عليه بوطنه كيف طالته يد التفرقة؟ وماذا يقدم كي يُعيد له لمّ الشمل ووحدة الشعب، فنتذكر هنا ما قاله الأخطل الصغير عندما شبَّه وطنه لبنان بالحبيبِ المدلل الذي إذا أيقظه يغضب، والذي يلهو ويلعب رغم البلاء والويلات التي تحلّ به كلّ حين فقال:

لبنان، ما لكَ إن غمزتُك تغضب...

أيجدُّ غيرَك في الحياةِ وتلعَبُ

إنّي هززتُكَ في البلاء فلم أجدْ...

عزمًا يفُلّ ولا إباءً يغضَبُ

أمّا الشعوب فقد تألّفَ شملُها...

فمتى يؤلّفُ شعبُكَ المتشعّبُ

نَضَبت مواردُهُ وجفَّ أديمهُ...

وتقلّصَ الرّيّانُ والمُعشَوْشبُ

كم موردٍ لك في السّراب وغصّةٍ...

كيف يغصّ من لا يشربُ؟

والآن.. وفي هذه المأساة الصاعقة التي ألمَّت بكِ يا بيروت، توجَّب على كل حرٍّ عاش لك وبك، وكل من عرفك وشرب من ماء حبّك، واستنشق عطر اسمك، وكل من لم يعترف بك، يجب عليه أن يردد ما قاله نزار قباني: "الآن، عرفنا أنَّ جذورك ضاربةً فينا... قومي من تحت الردم.. قومي كزهرةِ لوز في نيسان.. قومي من حزنك قومي.. قومي إكرامًا للأنهار والوديان.. والإنسان".

لا شكّ أنَّ المِحَن كشفت لك من هُم الجُناة، ومن هُم المساندون، ومن هُم الذين لا ينتمون للحب ولا للإنسانية. كُنتِ وما زلتِ بوَّابة الجمال على العالم والصبية التي تعزف لحن الحياة على قارعة الموت، بيروت في كل مرةٍ تُقتَل تحيا، ويموت قاتلها.