جابر حسين العماني
من أهم الموارد التي ينبغي الاستفادة من إمكانياتها وطاقاتها الجبارة في عالم الحياة الاجتماعية والأسرية هم العلماء، سراج العباد، ومنار البلاد، والنجوم المنيرة التي استنارت بهم الأرض، بمختلف تخصصاتهم العظيمة، من انتفعت الأمة بإرشاداتهم للخير على مر العصور، وقامت بحكمتهم الحضارات المجيدة، وحُلت المشكلات العصيبة، ورتقت المجتمعات الأصيلة.
حملوا على عاتقهم مسؤولية إيجاد الحلول الإيجابية للفتن الاستعمارية والتكفيرية والطائفية، وكذا المشاكل الاجتماعية والأسرية، واجهوا التحديات المختلفة، ونذروا أنفسهم لخدمة الإنسان أينما كان بهدف الارتقاء والازدهار بالأفراد والمجتمعات والأمة معنويا وعلميا وأخلاقيا وماديا، ساعين ومجتهدين ومخلصين من أجل خدمة البشرية جمعاء، لايفرقون بين أبيض وأسود، منتهجين منهج الكتاب العزيز، وسنة النبي وعترته الأبرار وأصحابه الأجلاء الأخيار في الألفة والتأليف بين الأمة، ونشر المحبة والمودة بينها، ذلك النهج القويم المبني على أهمية التعايش السلمي بين الشعوب، رافعين شعار العلم والحكمة والأخلاق الحميدة، قال في حقهم الباري عزّ وجلَّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( ٢٨ فاطر))، وقال: ﴿... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...﴾(المجادلة:11).
روي عن النبي الأكرم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم: قال: "العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة"، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام :
مَا الفَخْرُ إلا لأَهلِ العِلمِ إنَّهُمُ ..على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ..والجَاهِلُون لأَهلِ العِلمِ أَعدَاءُ فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِش حَيًّا بِه أَبَدا..النَّاسُ مَوتى وأَهلُ العِلمِ أَحْيَاءُ وظيفة العلماء عظيمة جدا فهي من أدوار الأنبياء، حيث كان هدفهم الأسمى هداية البشر، وتعليمهم وتثقيفهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، لذا فإنَّ من الأولويات التي ينبغي على العلماء العناية بها في الساحة الاجتماعية والأسرية اليوم هو: تعزيز السلم الاجتماعي، والحرص على الاستقرار والتعايش في المجتمعات الإنسانية، والعمل على إخماد نار الصراعات والحروب، والتصدي ببطولة للإرهاب والتطرف، والتركيز على أهمية المواطنة الصالحة، ونشر أبعاد الحب والمودة والترابط بين أفراد الشعوب بهدف ترسيخ روح الاحترام والتقدير والإجلال المتبادل بين الجميع، وإزالة بذور التعصب والطائفية والإرهاب من سائر المُجتمعات.
مسؤولية كبيرة لابد أن يتشارك فيها المتخصصون في جميع العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية والتطبيقية ... وغيرها، فما أجمل أن يتشارك الجميع بإخلاص ووفاء في تحقيق هذا الهدف العظيم الذي لابد أن يكون من أهم أولويات علماء الأمة .
ومن الموارد التي ينبغي أن تكون في محل اهتمام العلماء اليوم هو: ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية التي تساعد الإنسان على الارتقاء في تهذيب نفسه وفكره وسلوكه، ليستطيع أن يكون مصدر خير وبركة وسعادة لنفسه ومجتمعه، فتلك قيمة إنسانية وحضارية لابد من الاهتمام بها في الداخل الاجتماعي من قبل العُلماء .
إنَّ عدم اهتمام العالِم بأهمية ترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية في المجتمعات، يعني أن العالِم سيصبح ويمسي وبالاً على البشرية، وأداة لخدمة الشر، فإن ترك القيم وعدم الحث عليها سيجعلنا كبعض الأمم السابقة التي لم تهتم بترسيخ القيم والمبادئ، فأنتجت الكثير من الحروب الدامية التي لم ترحم الإنسان، والتي خلدها التاريخ في أسود صفحاته، والتي ذهب ضحاياها الملايين من البشر.
من الصعب للعالِم تحقيق تلك القيم الحميدة في المجتمع الذي يتعايش معه، إذا لم يتحلَ بنفسه بتلك القيم والمبادئ النبيلة والراقية، كقيم الاعتدال والوسطية والتعايش السلمي والتسامح والاحترام والتواضع والحلم والاعتذار، فتلك قيم أساسية وهي أساس نجاح دور العلماء، بل هي سر وجودهم وازدهارهم في المجتمعات البشرية .
ومن تلك الأولويات التي لابد من الاهتمام بها جيدا من قبل علماء الأمة هي: أهمية تعزيز أمن واستقرار الأوطان، وحث الناس على أهمية ترك كل ما يعكر صفو العيش الكريم في الداخل الاجتماعي من خلال تذكير وتحذير الناس بمساوئ وآفات الجرائم والمنكرات والمحرمات بحيث يكونوا حصونا منيعة ضد كل من يخل بالأمن ويسعى بنشر الفوضى، كي لايكونوا خناجر مسمومة في نشر الفساد والإفساد، وإرجاع المجتمع إلى الوراء.
ومن القيم الغالية التي لا يستغني عنها العالِم المخلص في تأسيس وبناء المجتمع هو: احترام التخصصات وأهلها، وعدم الخوض في تخصصات الآخرين، فمن الخطأ أن يأتي الكيميائي ليفتي النَّاس في أمور دينهم، ومن الخطأ أيضاً أن يأتي عالم الدين لينتحل شخصية الكيميائي ويتدخل في تخصصه، إنَّ احترام أهل التخصص وترك إقحام النفس في تخصصاتهم وأدوارهم أمر في غاية الأهمية، بل واحترامهم وتقديرهم مهمة عظيمة لابد من العلماء تعليمها للناس من خلال خطبهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم بأبناء المجتمعات .
فكم عانت وتعاني الكثير من المجتمعات بسبب عدم احترام أهل التخصص والرجوع إليهم، لذا نرى اليوم هناك الكثير من المؤلفات في الخطاب الديني من غير أهل التخصص في الدين، وهذه مشكلة أساسها عدم احترام أهل التخصص، فليس من الصواب للإنسان مهما بلغت درجته العلمية أن يخوض في ما لا يُتقنه ويُحسنه، فيصبح بذلك ضرره على المجتمع أكثر من نفعه له، روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "حسبك من العلم أن تخشى الله وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك".