إلى أي وادٍ سحيق نهوي؟

 

 

 

جابر حسين العماني **

jaber.alomani14@gmail.com

 

من غرائب بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة، أن العلماء والكتاب والمحققين والمؤلفين يسهرون الليالي بين المراجع والمصادر العلمية والتحقيق والتدوين، ولكنهم مجهولون لا أحد يعتني بما يقدمونه من مؤلفات علمية للمجتمع إلا من رحم ربي، وكأنهم يعملون في غرف مظلمة لا نوافذ لها ولا أبواب، يبذلون أوقاتهم بين التركيز والصبر والإرهاق والجهد المتواصل، وهم لا يعرفون طعمًا للراحة والاستقرار والاطمئنان.

هدفهم الأسمى إنتاج المعرفة والعلم، ونبذ الجهل ومظاهره السيئة عن المجتمع، ولكن عندما يصدر لهم كتاب لا يسمع به أحد سوى فئة قليلة من أبناء المجتمع من المهتمين، وربما لا يتلقون حتى كلمة شكر وتقدير وعرفان، والأدهى من ذلك أنَّ بعضهم يلجأ إلى البنوك للحصول على سلفة بنكية، لكي يتمكنوا من طباعة مؤلفاتهم العلمية، عندما لا يجدون من يهتم بطباعة إنتاجاتهم الإبداعية.

وفي المقابل، نلاحظ مشاهير الصخب والترفيه والغناء يرقصون ويغنون، وتتولى وسائل الإعلام المتنوعة، الترويج لهم على أكمل وجه، ويتم الدخول إلى حفلاتهم بتذاكر تشترى بمئات الريالات، والأكثر إثارة للقلق أنهم يحظون بأرفع درجات التكريم والجوائز، ويحتفى بهم من قبل كبار المسؤولين في البلاد، وكأنَّ ما يُنتجون أصبح المعيار الوحيد للإنجازات المنشودة، رغم أن الله سبحانه وتعالى يقول: "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" (الزمر: 9)، وألم يقل نبينا المكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اَلْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ".

لماذا يا ترى وصل بنا الحال في بعض بلداننا العربية والإسلامية إلى هذا الانحدار الأخلاقي؟ لماذا أصبحنا نكافئ الضجيج ونحترمه ونجله ونقدره ونعترف به رسميًا؟ لماذا نتجاهل أهل الفكر والعقل والعلم؟ لماذا تعاني مؤسساتنا العلمية من ضعف الدعم المادي والمعنوي؟

لماذا أصبحت الشهرة السريعة تُفضَّل على القيمة العلمية الرصينة؟ لماذا أصبح انتشار الجهل والتجهيل أكثر أهمية من الفوائد المرجوة للمجتمع؟ لماذا أصبحت العناية بالمظاهر الزائفة والخادعة تحظى بالأولوية على تقدير العلم وأهله؟ يا ترى إلى أين نحن نسير؟ وإلى أي واد سحيق نهوي؟

أسئلة يجب البحث عن إجاباتها، حتى يعي الجميع أن أصل المشكلة لا تكمن في الفن في حد ذاته، فالفن بأنواعه المختلفة سيبقى موجودًا بيننا ما بقينا، ولكن المشكلة تكمن في مصاديق الاحتفاء التي تغيرت واستبدلت بما لا يتناسب مع مكانة العلم والعلماء، الذين ينبغي تقديمهم واحترامهم والاستفادة من طاقاتهم العقلية وخبراتهم القيمة في خدمة الوطن وأهله.

يجب أن نعي تمامًا أن التكريم الحقيقي يجب أن يوجه إلى العقول العلمية الفذة، وهو واجب وطني ينبغي تفعيله واحترامه، فتكريم المهتمين بالعِلم أولى وأجدر من تكريم أهل التفاهة، الذين يمثل تكريمهم في الغالب ترسيخًا لمبدأ الجهل بين أبناء المجتمع.

اليوم ينبغي إرجاع المياه إلى مجاريها، وأعني بذلك أن نقوم بوظائفنا الاجتماعية تجاه المهتمين بالعلم وتطويره؛ سواء كانوا أفراداً أو مجتمعات أو مؤسسات أو صُنَّاع معرفة، ويكون ذلك عبر تحقيق الآتي:

  • أولًا: توفير البيئة الصالحة والمشجعة للمعارف العلمية، ويأتي ذلك من خلال احترام الباحثين والمبتكرين ودعمهم وتكريمهم والوقوف إلى جانبهم.
  • ثانيًا: توثيق جهود العلماء وتسليط الأضواء الإعلامية عليها مهما كان حجمها.
  • ثالثًا: ترجمة إبداعات المبدعين إلى عدة لغات إنسانية، وجعلها في متناول يد الجميع.
  • رابعًا: حماية جهود المبدعين والمبتكرين، وتعزيز الفكر النقدي، ومحاربة الخرافات التي تعيق تقدم العلم.
  • خامسًا: فتح المجال للموهوبين وتعزيز أفكارهم وتوجيهها ودعمها معنوياً ومادياً حتى تكون النتائج مذهلة يستفيد منها الوطن والمواطنون.

ختامًا.. إن الوطن القوي لا يبنى بالشعارات؛ بل بالأفعال الصادقة، ولا بالاحتفالات التي تتنافى مع قيمنا؛ بل بالوعي والعمل الجاد، ولا بكثرة التصوير، وإنما بالتركيز على الإنتاج الحقيقي الذي يظهر الوطن بأفضل أحواله، ولا بالمظاهر والوجاهات المصطنعة؛ بل بالكفاءة العلمية العالية التي تؤمن بأهمية ازدهار الوطن وأبنائه، ولا بتلميع الصورة، وإنما بالسعي الجاد لإصلاح الواقع الاجتماعي والأسري في المجتمع.

** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء

الأكثر قراءة

z