الشركات الحكومية ليست للمتقاعدين

ناجي بن جمعة البلوشي

nbalushi@alnaaji.com

تُخطِّط الحكومة لتفكيك ملفَّات: بعضها شائكة، وبعضها سهل التعامل معه؛ لإيجاد حلول واضحة الرؤية، وشاملة لملفات عالقة منذ سنوات مضت؛ تتنوع الحلول فيها بتنوُّع ما بها من تفاصيل، والتي كانت تعالج في كثيرٍ من الأحيان بزحزحتها من عام إلى آخر؛ لمَزْجِها مع المشاكل المستقبلية ووضعها في مكونات المشاكل المتجددة دائما.

وعلى الرَّغم من أنَّ هذا بدا واضحا، ويُمكن أن يُلاحظه الجميع في بعض الجهات الحكومية التي ما زالت تقوم بما اعتاده مسؤوليها في كلِّ مرة للحل من نقل الملفات ورزم القضايا إلى الأعوام المستقبلية بانتظار ما يشترك معها من مشاكل مستقبلية لتكون ملفًّا مُعقدا لا حلَّ له، إلا الكثير من القرارات التي تَتَعارض في أحيايين كثيرة مع رُؤى وركائز مستقبلية للدولة الناشئة في كل مكونات المجتمع.

فلمفُّ الباحثين عن عمل وخلق فرص وظيفية جديدة، يختلف عن ملف رفد الجهات الحكومية بموظفين ذوي شهادات عليا ودراسات تخصصية يحتاجها القطاع العام لمواكبة التطور المشهود في التخصص من الخدمات والمعاملات الحكومية؛ فوجود الشواغر الوظيفية في القطاع الحكومي لا يعني أن مشكلة الباحثين عن عمل انحلت وانتهت ما لم تُوجَد آلية واضحة ومرنة تعمل بها الجهات المعنية بشكل أوتوماتيكي مرن وواضح للجميع، كفتح دوائر وتخصصات تحتاج أولئك الخريجين وذوي الشهادات العليا في مجال دراستهم وتخصاصاتهم والاستفادة منهم، ومما حصلوا عليه من علم ومعرفة لتواكب تلك الاحتياجات التطوُّر المعمول به في كل بلدان العالم المتحضر وما لدينا من مخرجات؛ فلا يُمكن أن نضع الحاصل على دكتوارة في الشعر العربي الفصيح مديرا عاما لمديرية يحتاج كل موظفيها للتقنية الحديثة، ليغلق دائرة تقنية المعلومات على ما هي عليه من تقنية دون تحديث، ولأنه يرى الإدارة على أنها إدارة ملفات من وإلى، مع إنهائها باللمسة الأخيرة، والحصول على مكاسبها حتمًا، فإنَّ هذا لا يتحقق في التقنية الحديثة التي ترى المواكبة من وإلى دون الالتزام بأي عوائد مؤكدة. فالتقنية تخطئ وتُصيب وهي من الآلات، لكنهم يسعون لتطويرها في كل لحظة من الزمن دون توقف، مع معرفتهم بأنَّ ما استُخدِم بالأمس القريب لا ينفع لهذا اليوم، ولن ينفع إطلاقا ليوم غد.

ومع مثل هذه الفجوة المعرفية، يكون هناك غياب فعلي عمَّا تحتاجه تلك الدائرة أو غيرها من الدوائر الديناميكية المعرفية؛ فتكون هذه الدائرة في انفصال فعلي عمَّا يحتاجه العمل والتطور، ولأنها المحرك الأساسي في تطوير هذه الوحدة الحكومية، فإن انفصالها ذاك سيُبقي المؤسسة الحكومية برمتها في معزل تام عن العالم المتطور، وإذا كان هذا في جانب المعرفة بالتقنية؛ فإنَّ المعرفة بالموارد البشرية أيضا واجبة؛ فلا يُمكن أن نضع طبيبا جرَّاحا في وظيفة تُعنى بكلمة مدير إداري لنخسر كل مكنوناته العلمية والعملية مما تعلَّمه وحصل عليه؛ فهو أصبح إداريا لا يجيد عملَ الإداري الناجح كما هو بارع في الجراحة والعلاج بالجراحة؛ لهذا سيكون كل من البعيد عن المعرفة بالتقنية والبعيد عن المعرفة بما أسند إليه تائهًا في ما هو جديد لمدة من الزمن، يُمكن أن ترهق عاتق الجهة المعنية بتوظيفهم، لكن مع مرور الزمن سيحصل على ما تعلمه السابق للخدمة في العمل إن كان صوابا أو خطأ، وهو ما يصعب علينا توضحيه هنا؛ فهو ما نجده فعلا اليوم.

هناك ملفات كثيرة لا يُمكن لنا أن نحصرها هنا؛ فملف تأهيل الموظفين الحكوميين في الاستجابة السريعة للمطالبات المجتمعية، في محاربة الفساد الإداري والترهل الإداري والمحسوبية...وغيرها من أنواع التفاصيل التي لم يستوعبها كل الموظفين حتى يومنا هذا، إنما هو من تأثير تلك المعرفة التي حصل عليها الموظف الجديد من السابق في الخدمة، وإلا ما وجدنا من أخبار الاختلاسات وشكاوى الترهل الإداري والمحسوبية بعد أن دفعت السلطة الحكومية الأعداد الكبيرة من الموظفين الجدد والتقنية الجديدة وجهاز للرقابة المالية والادارية، هناك من الملفات ما هو ملف التحول الإلكتروني في خدمات ومعاملات المنشآت الحكومية الذي يُمكن ملاحظة وجه الاختلاف في الجاهزية فيه بين منشأة وأخرى، واختلافه في مدى تقديم الخدمة وفهم الموظفين والاستجابة لها، وبين من هم دون ذلك المستوى من الاستعداد والدراية.

وعلى الرغم من أنَّ هناك الكثيرَ من الملفات التي رُبما تحتاج إلى فتح وتفكيك، وإيجاد الحلول الدائمة لها، إلا أنَّنا نعترف بما نجده واضحا كل الوضوح، وأنَّ هناك اهتماما من لدن المقام السامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بفتح الملفات الساخنة التي دائما ما نجد جُملة معينة في التعميمات والقرارت والمنشورات، مثل: "بناء على التوجيهات السامية" و"بناء على الأوامر السامية".

يعني ذلك أنَّ مثل هذه الملفات تُوليها القيادة الحكيمة كلَّ الاهتمام والمراجعة الدقيقة لتتجاوز حواجز ما هو معمول به، ولتتخطى ما هو موجود إلى ما لم يكن موجودا أصلا؛ فالأوامر السامية التي رافقت التعميم الديواني رقم (6/5/2020)، إنما تدل على ذلك الاهتمام بكل وضوح.

ولأنَّ مثل ذلك التعميم أو غيره من التعاميم والقرارات التي تحول من صيغتها إلى صيغ أكثر تشعبا في بعض من الاحيان لتغير حقيقتها ومسلكها، خاصة عند تلك الجهات التي تمتلك إداراتها القرار في مجموعة شركات حكومية وكلت بها، فإنَّه هنا يستوجب علينا مع إخلاصنا لهذا الوطن أن نقوم بالمساهمة في التعاون مع القيادة الحكيمة في سعيها وتوجهها، ولنلفت نظر مسؤولي هذه الجهات ومسؤولي الاختصاص في الشركات الحكومية إلى أنَّ الشركات الحكومية ليست مكانا ليقضي فيه المتقاعدون الحكوميون أوقاتهم، فقد سبق وأصدر وزير المالية منشورا ماليا رقم (14/2020) إلى أصحاب المعالي والسعادة رؤساء مجالس إدارة الشركات الحكومية بشأن سياسة التعمين والإحلال للكفاءات الوطنية، ومن بين سطور ذاك المنشور: "... وحيث تلاحظ من خلال تقارير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وجود أعداد كبيرة من الوافدين الشاغلين للوظائف القيادية والإشرافية في الشركات الحكومية، وكون الشركات الحكومية ذات بيئة جاذبة ومحفزة لاستيعاب العُمانيين المؤهلين الباحثين عن عمل، وللنهوض بدورها في تنفيذ سياسة الحكومة الهادفة لإيجاد فرص عمل للعمانيين، وبناء كفاءات وقدرات وطنية، فإن وزارة المالية تودُّ التأكيد على كافة الشركات الحكومية بضرورة الإسراع في إحلال العمانيين محل الوافدين".

... إنَّ سعي الحكومة الرشيدة يكمُن في إيجاد فرص عمل للباحثين عن عمل، وليس في جدوى إيجاد حلول للمتقاعدين وتوظيفهم في شركاتها؛ فكان توجهها هذا في خلق ذلك الشاغر بمساحة كبيرة وفرص عمل حقيقية للباحثين عن عمل لإنهاء ملف الباحثين عن عمل بأسرع وقت ممكن، والانتقال إلى ملفات أخرى من أجل النهوض بهذا الوطن ورفعة شأنه.