علي النعماني
يعيش في بلُّورة زجاجية وكأنَّ ثمة حاجزًا زجاجيًّا يفصله عن العالم، يَراهم ويعرف الوجوه تماما ويُميزها وربما يعرف أدق التفاصيل، يحفظ الطرقات والمسارات التي تؤدي لمكان يفضله، أو أي مكان مُحبَّب إليه، ومع ذلك كله، فإنه يظل صامتا لا ينبس ببنت شفاه، إلا إذا استثارَ غضبَه شيءٌ قد لا يعجبه، كتغيُّر الأثاث في المنزل أو ارتدائه للباسٍ لا يفضله، أو في حالة عدم الاستجابة لطلبه، طلبه الذي قد لا يفهمه أي شخص إلا أمه أو أبوه القريبان منه، يتمسك بألعاب معينة يلعب بها بشكل مختلف، وكأن الروتين هو جزء منه لا يفارقه، تناديه ولا يستجيب لك، مع أن سمعه وبصره سليمان جدا، يبكي ويضحك عادة بدون سبب أو مبرر؛ لذلك تفاعله الاجتماعي وتواصله مع الآخرين قليل، وربما معدوم في بعض الحالات.
هذه كلها بعض السمات التفصيلية التي يتميَّز بها الأطفال المصابون باضطراب طيف التوحد، إضافة لسمات أخرى تختلف درجة تواجدها من طفل إلى آخر وفقا لدرجة التوحد.. كما يقال لا يوجد شخصان مصابان بالتوحد لهما نفس السمات والأعراض.
وللأهمية الكبرى لهذا الاضطراب في ظل تنامي عدد الحالات المسجلة سنويا، دون معرفة سببه إلى الآن، خصصت هيئة الأمم المتحدة يوما عالميا للتوحد، والذي يُصادف الثاني من أبريل من كل عام، يهدف للتوعية بهذا الاضطراب والتعريف بهذه الفئة المبدعة من المجتمع، والتي تملك القدرات والمهارات رغم كل ما يحيط بالاضطراب من غرابة وغموض، وكان تحديد هذا اليوم في العام 2007م بمبادرة عربية من دولة قطر، ومنذ ذاك العام تحتفل دول العام بهذا اليوم لإذكاء التوعية والتعريف بخصائصهم الفريدة التي يتميزون بها.
يحمل شعار هذا العام "الانتقال إلى مرحلة الرُشد"؛ ليُؤكد أهمية وخطورة هذه المرحلة المهمة من حياة الشخص المصاب بالتوحد، وضرورة مراعاة وتهيئة سُبل الاهتمام بهم في مرحلة البلوغ والرشد، ويتمثل هذا الاهتمام -الذي ترنو له أسر التوحد- في مواءمة السبل لاستمرارية تأهيلهم وتدريبهم وتعلميهم حتى بعد سن الخامسة عشرة، هذا إذا ما عرفنا أنَّ أغلب مراكز التأهيل والمدارس محكومة بسن معينة، ومرحلة معينة يتوقف عندها كل شيء، ويبقى الشاب من ذوي التوحد حبيس المنزل.
وفي المقابل، تهتمُّ الدول الغربية بهذه الفئة في مرحلة الشباب والمراهقة، وتوفر لهم مراكز تأهيلية سواء كانت مهنية أو إدارية أو غيرها، تصقل مهاراتهم التي اكتسبوها في مراحل متقدمة، وتنمي ما لديهم من قدرات؛ ليكونوا قادرين ومهيئين للانخراط في مجال العمل وتكوين شخصية ملهمة ذات نفع في المجتمع.
وختاماً.. هذه رسالة من أسر التوحد، مغلَّفة بروائح الحب للوطن العزيز، ولكل مسؤول بهذه الفئة، ليتم الالتفات جدِّيا لمرحلة ما بعد الطفولة ودخول مرحلة مهمة من حياتهم تحدِّد مصيرهم الغامض، فما زالت أيديهم ممدودة إليكم ينظرون إليكم وأفواههم صامتة.. فهل سنأخذ بهذه الأيادي الناعمة؟ إجابة هذا السؤال متروكة لكم.