د. سيف بن ناصر المعمري
في خطابه إلى الأمة، عبَّر رئيس وزراء جمهورية إيرلندا ليو فارادكار، بعبارة دقيقة عن التحولات التي بدأت تطال مفهوم المواطنة في ظل تنامي انتشار وباء كورونا؛ حيث قال: "نطلب منكم أن تتحدوا من خلال الابتعاد عن بعضكم البعض"، هذا الاتحاد بالابتعاد الذي طالب به رئيس الوزراء، عبر عنه بالمطالبة بـ"تقديم التضحيات" تعبيرا عن حب الناس لبعضهم البعض وبلدانهم، ترفع هذه الشعارات في التعبير عن المواطنة في أكثر من بلد من بلدان العالم في ظل أزمة عدها كثيرٌ من القادة السياسيين أنها حرب لا سبيل لتخطيها بأقل حجم من الخسائر إلا بالمسؤولية، فبقدر التزام المواطنين بالتباعد عن الآخرين والمؤسسات، بقدر ما يقتربون من تحقيق مسؤوليات المواطنة، فإلي أيِّ مدى تتغيَّر معاني المواطنة في ظل هذه الظروف التي يشهدها العالم؟ وكيف أعيد تعريف مفهوم المواطن الصالح من قبل دول العالم؟
لقد راجعت الدول مفهومها للحرية بسرعة كقيمة من قيم المواطنة الأساسية التي ناضلت كثيرٌ من الشعوب لاكتسابها، ووضعت توجيهاتها في أهمية عزل هذا المواطن عن بقية مواطنيه، وعن بقية دول العالم؛ فلم يعد المواطن في ظل كورونا حرًّا في الحركة كيفما شاء كما كان من قبل، بل أصبح واجب المواطن يدفعه إلى ضرورة التقيد بالحركة المحدودة له، ولو خالف تلك التعليمات فهو معرض لعقوبات يمكن تسميتها "عواقب ممارسة الحرية"، لذا واجه المواطنون في بعض الدول عقوباتهم على هذه المخالفات، وهناك دول سوف تشدد إجراءاتها، فعلي سبيل المثال: أظهر استطلاع أجرته "بي.بي.سي" الأسبوع الماضي حول مدى التزام المواطنين البريطانيين بإجراءات تقليص الحركة، أنَّ كثيرًا من المستطلعين لم يلتزم بها؛ وبالتالي هناك احتمالية لتشديد الإجراءات والعقوبات عليهم، إلا أنَّ ما يطال الحرية كقيمة من قيم المواطنة قد تكون مسألة مؤقتة، ولكن الدول تستند إلى استنهاض قيمة كبرى يركز عليها الخطاب العام في مختلف دول العالم اليوم، هي قيمة التضحية، التي تعد من قيم المواطنة التي يؤكد عليها تيار من مفكري المواطنة، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى التيار الجمهوري.
التضحية في ظل مرحلة يشبها الكثيرون بالحرب، تعدُّ قيمة كبيرة متوقعة من الجميع، وهذه التضحية تأخذ درجات ومستويات؛ فالتضحية المتوقعة من الكوادر الصحية كبيرة جدا؛ لأنهم يعملون على الخط الأول في المعركة، ويتعرضون لمخاطر متعددة، ومنهم من لم يحصل على راتبه في دول، ومنهم يعمل بدون أدوات حماية كافية لكنهم يصرون على التضحية من أجل إنقاذ شعوبهم، وأحيانا الشعوب الأخرى كما فعلت وفود الأطباء الكوبيين والألبانيين التي توجهت لمساعدة الإيطاليين، وهناك درجة أقل من التضحية مطلوب من المواطنين الآخرين أن يلتزموا بالتعليمات الصحية وأن يبقوا في منازلهم، وأن لا ينقلوا العدوى لغيرهم، وأن لا يضغطوا على بلدانهم، وهناك تضحية مطلوبة لمساعدة الناس لبعضهم البعض، ولبلدانهم، الكل يركز على العطاء من أجل تحقيق التماسك والانتصار بأقل عدد من الخسائر، لقد نشرت الجرائد البريطانية عن الجارة التي تعد الغذاء لجيرانها الأطباء وتضعه في علب كل صباح على عتبة بابهم؛ لأنها تدرك الظرف الصعب الذي يعيشونه والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقهم، شكل من أشكال التضحية يبرز في التطوع؛ حيث دعت الدول مواطنيها للتطوع للمساعدة في مساندة الجهود السياسية والطبية، ففي أسكتلندا وضعت الحكومة قناة رسمية لتوحيد جهود المتطوعين وحركتهم واستثمار جهودهم بشكل أفضل. هذا ناهيك عن التبرع بالمال لدعم هذه الجهود سواء كانت صحية أو علمية، وهذه التبرعات تعد تعبيرًا من التعبيرات العميقة عن التضحية من أجل مواجهة الأزمة وتعزيز التماسك داخل أي دولة.
وبعيدا عن الأدوار المتوقَّعة من المواطنين من تضحية والتزام ومسؤولية، أظهرت هذه الظروف أنَّ الدولة التي شكَّك كثيرون في ظل تنامي العولمة في قدرتها كحاضنة رئيسية للمواطنة وحقوقها، تعود مرة أخرى إلى هيبتها، في ظلِّ تقوقع دول العالم وانكفائها على وضعها ومواطنيها، فلم تعد المنظمات والتجمعات والمجالس الأممية الكبرى هي المسؤولة عن الخروج من تداعيات هذه الأوضاع، إنما الدولة وحدها هي المسؤوولة وهي تقود المعركة مع مواطنيها، وبدلًا من التكاتف والتعاون الدولي صارت الدول تعمل على خطف الاحتياجات الطبية من بعضها البعض في سابقة تفتت تلك الأطروحات المثالية التي جاءت بها العولمة، رغم الدعوات التي تنطلق وتدعو إلى المحبة ونبذ الكراهية وتوحيد الجهود في مواجهة هذه الظروف الصعبة التي يواجهها العالم من شرق لغربه ومن شماله لجنوبه، وهذا الواقع قد يقود إلى مراجعات عميقة في المرحلة المقبلة، خاصة فيما يتعلق بفكرة المواطنة العالمية، وتحديد أشكال الانتماء خارج إطار الدولة الحاضنة للمواطنة والحماية للمواطنين في فترات الخطر.
علاوة على ذلك، اكتسبت المواطنة الرقمية معنى جدا مهم في ظل هذه الأزمة؛ فالكل يعمل على تفعيل الروابط الرقمية؛ سواء على مستويات إدارة الحكومات لشؤونها، أو إدارة مؤسسات التعليم لمناهجها مع طلابها، أو كإدارة المستهلكين لشؤونهم مع السوق، وغيرها من أشكال الحياة التي تعبر عن التباعد وتقلل من التقارب الذي يهدد شعور الجميع بالأمن، لقد شهدنا اجتماعات حكومية وأممية متعددة عن بُعد، ما كانت لتكون لولا هذه الظروف؛ مما يعطي احتمالية لتنامي هذا الشكل من أشكال المواطنة في الفترة المقبلة.
... إنَّ المواطنة ستمر بتحولات عميقة في الفترة القادمة في العالم، الذي سيعيد تعريف معنى هذه المواطنة، وأشكالها ودلالاتها، ودور الدولة، والمنظمات الدولية، والتكنولوجيا وأدواتها، ناهيك عن قيم الحرية والتضحية، وأدوار الحكومات، والفخر الوطني، لقد قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل يوما إن "من الجندي الذي يقف في الشارع تبدأ هيبة الدولة"، وقد يقول مواطن اليوم من "كفاية أجهزة التنفس الاصطناعي"، أو من "توافر زجاجات التعقيم"، أو "من بقاء المواطنين في منازلهم"، أو من "الطبيب الذي يوجد بالمستشفى" تبدأ هيبة الدولة، إنه وقت المراجعات لما ستكون عليه الروابط والحقوق والمقومات في الفترة المقبلة.