العفو التاريخي الثاني

 

د. عبدالله باحجاج

كُلنا نتذكر، ولن ننسى بداية عهد المُؤسس الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- رحمه الله وطيب ثراه- كيف فتحت صفحات جديدة؟ وكيف طويت صفحات قديمة؟ كل ذلك بعبارة واحدة جامعة وشاملة، وهي "عفا الله عمَّا سلف" للكل دون استثناء حتى أولئك الذين كانوا يحملون السلاح، وهذا ما سنطلق عليه في مقالنا العفو التاريخي الأوَّل، كان ذلك في التاسع من أغسطس 1970 في خطاب موجه عبر إذاعة سلطنة عُمان للشعب، ومن هذا الخطاب نقتطف العبارة التالية: أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي أقول: "عفا الله عما سلف.. عفا الله عما سلف" مكررة مرتين.

وعامل الزمن والتكرار يُعبران عن صدق النوايا السياسية، وعن رهانات عهد الراحل على العفو والتسامح، وكأنه اطلع على مآلاته الراهنة، بحيث تنعم بلادنا بالأمن والاستقرار داخل محيط يعج بالقتل والتدمير، ونُؤكد هنا على عنصر الزمن للعفو، فقد كان بعد 49 يومًا فقط من تسلمه الحكم في البلاد في 23 يوليو عام 1970، وهذه رؤية استشرافية مبكرة جداً من السلطان الراحل لدواعي كثيرة أبرزها:

تحقيق الوحدة الوطنية قبل الوحدة الترابية، وتأسيس منظومة ولاء وانتماء للدولة الوطنية الجديدة، ولثوابتها ورموزها، وكلنا شهود عيان على نتائجها المدهشة والسريعة، وهي تجلت في الوفاء النادر من الشعب لسلطانه عبَّر عنها الشعب في كل حقب عهده، وكانت وفاته رحمه الله، ملحمة حزن وطنية ستظل في السيكولوجيات استمرارية لهذا الوفاء النادر، وقبلها تجلت في انصهار الكل في اللحمة الوطنية، وتبني أفكار النهضة وأجندتها المختلفة، والعمل على نجاحها.

وقد ارتبط العفو بوجود منظومة إصلاحية شاملة للبلاد، أي أن الإصلاح كان الخطوة التالية والضرورية التي لامست آمال وتطلعات الكل، بحيث جعلتهم يندمجون في انشغالات لحظته- أي العفو- وبالتالي كانت سبباً وجودياً لنجاحه، بحيث كان الإصلاح عاملاً جوهرياً في تحولات القناعات من حمل السلاح لتغيير النظام إلى المساهمة في نجاح النظام وديمومته.

ويتلاقى عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأيده بنصره- مع نفس مسار عهد السلطان المؤسس رحمه الله، ليس في مستوى تحدياته التاريخية وضخامتها، وقوتها الصلبة، وإنما من حيث بعده الفلسفي وأهميته الوطنية التي تستلزم كسب الكل للمرحلة المُقبلة، فبعد أشهر قليلة سيتم تطبيق "رؤية عمان 2040"، وهي رؤية تهدف إلى جعل بلادنا في مصاف الدول المُتقدمة، وهي حالمة ففي محور الإنسان والمجتمع تستهدف مجتمعًا، إنسانه مبدع عبر التعليم الشامل المستدام والنظام الصحي الرائد بمعايير عالمية ومجتمع معتز بهويته وثقافته وحياة كريمة مستدامة للجميع. أما محور الاقتصاد فيركز على اقتصاد المعرفة ذي البنية التنافسية عبر تعزيز التنويع وإفساح مجال أكبر للقطاع الخاص ونظام فعَّال للبيئة وتنمية شاملة جغرافياً وسوق عمل جاذب وقيادة اقتصادية ديناميكية، وفي محور الحوكمة نسعى إلى حكومة مرنة تقدم الخدمات بأفضل وأسهل طريقة وتطبيق اللامركزية. وشراكة متوازنة ومنظومة تشريعية تشاركية.

وتحقيق هذه الرؤية، يستوجب حمل كل المجتمع وتحفيز طاقاته، وهذا يعني أن العفو الثاني تتوفر له نفس الأسباب التي استوجبت العفو التاريخي الأول، والعبارة المشهور القائلة "ما أشبه اليوم بالأمس" نجد لها الكثير من الاستدلالات المعاصرة مع اختلاف التحديات، وهي تستوجب الانفتاح على الذين كانت لهم رؤى مختلفة، بعضهم في الداخل حكم عليهم القضاء بأحكام متباينة، وهم قلة، والآخرين خرجوا لخارج البلاد، وهم أيضاً قلة.

هذه القلة من أبناء الوطن في الداخل والخارج يمكن أن تستوعبهم الانطلاقة الثانية للنهضة العُمانية، وذلك عبر الانفتاح عليهم بسياسة "عفا الله عما سلف" خاصة وأنها ترتبط في انطلاقتها الثانية بمنظومة إصلاح جديدة أسوة بمنظومة الإصلاح التي ترافقت مع سياسة العفو التاريخية الأولى، طبعًا مع اختلاف الانطلاقتين، الأولى كانت تأسيسية والثانية ستكون لتعزيز التأسيس بصورته الشاملة أيضًا لمُواجهة تحديات معاصرة تفرضها التحولات في دور الدولة من الرفاهية إلى الجبائية.

وهنا أمل كبير في فتح صفحة بيضاء لعودة اندماج الكل في انشغالات وورش النهضة العمانية في انطلاقتها الثانية، خاصة وأنه كانت هناك مدة زمنية كافية للكل لاختبار أفكارهم ومواقفهم ومصائرهم الجديدة سواء من كانوا داخل الوطن أو خارجه، وهي كفيلة بإعادة تصويب الأفكار ومراجعتها، ومن ثم نضوج الفكر، ومطالبة معاوية الرواحي بالعفو نموذجاً، وكذلك الاستعطافات المكتوبة من داخل السجن نموذجًا آخر يمكن أن تكون مدخلا لفتح صفحة جديدة مع الكل.

نتطلع بتفاؤل كبير إلى العفو الثاني من لدن عاهل البلاد أيده الله بنصره ومكنه في قيادته لهذا الوطن، ونتطلع إلى فتح ملف العودة لكل العمانيين العالقين خارج البلاد بعد انهيار الإمبراطورية العمانية بعد ما كشفت عن رغباتهم برامج في التلفزيون العُماني مؤخرا، فالعفو والتسامح العام قد أصبح نهجًا عمانيًا مستدامًا، فلم يكن حصرياً على بداية العهد السياسي للمؤسس الراحل، وإنما كانت حالة ملازمة طوال عهده كذلك، فبعد كل عمليات الإثبات والإدانة وإصدار القضاء أحكامه، وبعد ما تنكشف الأخطاء، وينضج الفكر للعودة الاجتماعية والوطنية، يصدر العفو السياسي، وتبدأ الصفحات الجديدة، وتطوى القديمة، ويعيد الفرد أو الجماعة في مسيرة الوطن والمواطن.

من هنا نتأمل العفو العام والعودة للوطن، ومنه نرجوه ونترجاه بل ونتوقعه، وتعاطينا معه بصوت مرتفع يقف نزولاً عند مطالبة بعض أولياء الأمور، وفي الوقت ذاته تذكيرا به، وحتمياته الزمنية والسياسية ذات الحمولات الوطنية تقضيه عاجلا، فالعهود السياسية الجديدة في بلادنا دائمًا تفتح الصفحات الجديدة للكل، وذلك حتى لا تمضي قدماً دون بعض أبنائها، وإنما بكل أبنائها.

لذلك ننتظر بتفاؤل كبير عودة كل أبناء الوطن إلى وطنهم الآمن، رغم قلة عددهم، وفك أسر من غرر بهم، ودفع بهم إلى تبني فكر غير صالح لتربة وطنهم، وهم الآن نادمون عليه، فبلادنا قوية بمؤسساتها وقوتها الصلبة والناعمة، وسلطتنا الجديدة، مجمع عليها، ومن موقعها القوي يتلألأ العفو المأمول وعودة كل أبناء الوطن لكي يساهم الكل في انطلاقة النهضة العمانية الثانية بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه وأيده الله بنصره- ومكنه لقيادة هذا البلد العريق في حضارته والأصيل في شعبه.