صناعة المحللين الإستراتيجيين

غسان الشهابي

* كاتب بحريني

بعد المقال الذي نُشِر هنا في الخامس من الشهر الجاري تحت عنوان "سوق المحللين الإستراتيجيين"، أعاود للكتابة في الجزء الثاني من هذا الموضوع الذي أعتبره مهمًّا جدًّا.

الظهور الكثيف على شاشات المحطات الإخبارية من قبل عدد لا يستهان به ممن يطلقون على أنفسهم لقب "المحلل السياسي" أو "المحلل الإستراتيجي"، وما أشبهها من ألقاب، أسهم في فقدان الثقة في أكثر كلامهم وذلك لعدم ترابطه، أو عدم منطقيته، أو لكثرة ما خالف الواقع ما يتحدث عنه هؤلاء، وهذا ما دعا الكثير من الناس ينصرفون عن متابعتهم أو يتخذونهم مادة للسخرية، وتصيُّد الأخطاء، حتى إنَّ الكاتب الساخر جلال عامر -رحمه الله- قال: كُنت أريد أن أصبح محللًا سياسيًّا، إلا أن أسرتي ضغطت عليَّ لأكمل تعليمي! لأن هذا المجال صار مفتوحاً على مصراعيه لمحبي الظهور الإعلامي في أي مناسبة، ولا يهم بعد الظهور ما الذي سيقال.

إنَّنا في حاجة ماسَّة وحقيقية لوجود المحللين السياسيين، ولكن بالشكل الصحيح، المحللين الذين لديهم الخبرة الكافية، والمطلعين المتابعين، والاتصال والتواصل مع مصادر صنع القرار مع الوقوف على مسافة منهم، هم الذين حَبَاهم الله بالقدرة على رص الحقائق في مصفوفات واضحة للخروج منها بنتائج أقرب ما تكون إلى الدقة... إننا بحاجة إلى شيوع تخصص العلوم السياسية في الجامعات الخليجية على وجه التحديد، ليكون التحليل السياسي أحد أهم ركائزه.

فلقد هجرت الكثير من الجامعات الخليجية في هذه الفترة التخصصات الإنسانية؛ ومنها العلوم السياسية، نحو التكنولوجيا والهندسة والثورة الصناعية الرابعة بالذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والطائرات الدرون... وغيرها من مميزات هذه الفترة الزمنية؛ وذلك لأنَّ الفهم القاصر لدور الجامعة في المنطقة يشير إلى أنها البوابة التي يتخرج منها العاملون في سوق العمل المحلية وحسب؛ لذا فالعلوم السياسية لا محلّ لها في هذه السوق في الغالب، بينما يقع الخليج العربي في قلب أحداث العالم، مؤثراً ومتأثراً، مغيِّراً ومتغيراً، ويحتاج جمهوره -في المقام الأول- إضاءات لما يمكن أن يحدث على المدى القصير وحسب، وحينها يحتاج المحلل للخروج من تحت كافة العباءات وسلطويتها، ليقول ما يمليه عليه تخصصه ومعلوماته دون أن "يوحى إليه" في معظم الأمور بما يقوله حين يظهر على الشاشات.

إذا قيل إنَّ الطبيعة تكره الفراغ؛ فهذا القول يصدق أيضاً على فراغ الساحة من المحللين الإستراتيجيين ترفعاً ربما، فيحل محلهم المتسلقون والمتنطعون وتبقى الساحة خالية للأدعياء.