قابوس.. دلالة وفكرة

محمد علي العوض

كانت الحياة في الغبيراء قبيل مجيء السلطان قابوس -رحمه الله- عام 1970 شاقة وصعبة بشهادة الجميع.. فالمدارس تعد على أصابع اليد.. وربما بعض العيادات هنا وهناك، ومستشفيان فقط في مسقط ومطرح يفد الناس إليهما بعد مسيرة أيام؛ فالطرق وعرة ولا سبيل لقطع وهاد وجبال عمان إلا على الدواب؛ إذ لا طريق مسفلت سوى "عقبة ريام"..

لكن؛ بمجرد تربّع السلطان قابوس -طيّب الله ثراه- على سدة الحكم بدأت الصورة الموحشة في التغير بالتدريج.. مشاهد الصورة آخذة في الاختلاف والتحسنّ رويدًا رويدًا.. اختلاف سبقه السلطان قابوس في أول خطاب له حينما قطع عهدا على أبناء شعبه بأن يسعى إلى جعل الجميع ينعم بالسعادة وبأن تكون عمان دولة عصرية تناطح هامات الدول المتحضرة.. وبالفعل قرن الرجل الهمام الأقوال بالأفعال والوعد بالوفاء، فبدأت المدارس تغزو القرى والمدن شيئا فشيئا، وشرعت الخارطة الصحيّة في الاتساع حتى صار ما من ولاية ولا محافظة أو حتى مدنية إلا وفيها عشرات المرافق الصحية. وأخذت شبكات الطرق والاتصالات في التلوي شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وفق مواصفات عالمية تواكب متطلبات الحاضر وحركة النمو السكانية والعمرانية في عمان..

ومنذ بواكير فجر النهضة المباركة رهن جلالة السلطان - طيّب الله ثراه- التطوّر بالإنسان، وقالها بوضوح ألا ارتقاء أو تطور دون تنمية بشرية حقيقية؛ فكان الإنسان العماني -عنده- هو رأس رمح التنمية وأداتها الخلاقة وشفرتها السرية؛ ولأنّ هذا المرام لن يتحقق إلا بالتعليم وجّه جلالته رحمه الله بإنشاء المرافق التعليمية الدنيا والعليا في كل أجزاء عمان وبعث البعثات الطلابية إلى كل أقاصي دنيا المعرفة. لتنهل من تلك العلوم وتطبيقها في الداخل العماني من أجل صنع مستقبل الوطن.. فتمّ الأمر كما ينبغي.

ثمة عاملان من بين عوامل شتى جعلت العمانيين يلتفون حول قابوس والسير معه في معركة بناء الوطن؛ أولاهما أنّ السلطان قابوس -رحمه الله- كان حريصًا على إرساء دعائم الوحدة الوطنية، فحتى عام 1970 كانت سلطنة عمان مقسمة إلى إقليمين هما مسقط وعمان؛ لكنّ السلطان -رحمه الله- بمجرد مجيئه قام بدمج الكيانين معا وأنشأ كيانًا موحدا بعلم وطني واحد وجيش واحدً، وكانت رسالته في ذلك "لا تناحر أو شقاق بعد اليوم فعمان بلد واحد وأمة واحدة".

وانعكس عامل "الوحدة" هذا على عامل آخر هو "العفو الجميل" فحتى يكون السلطان قدوة لغيره وتركن كل القبائل والبطون الخلاف جانبا بسط قابوس -رحمه الله- يده بيضاء من غير سوء للجميع رحمة وصفحا وتساميا فوق صغائر الشقاق، فقد كان -عليه الرحمة- يدفع دومًا بالتي هي أحسن..

وعملا بالتنويه الرباني "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" عفا وأصلح تاركا أجره على الرحمن، فلم يفجر في الخصومة، أو يقتل ويُشرِّد من رفعوا السلاح في وجهه بالماضي، بل كان لمخالفيه أخًا كريما وابن أخٍ كريم عندما تغاضى عمّا سلف بتجرد نادر يستحق أن يفرد كنموذج فريد في فلسفة وفقه "المصالحات".. حيث استوعب قابوس جميع أبناء شعبه؛ المؤيد منهم والمعارض، المحارب منهم والمسالم، واستمالهم بقيم البناء والإنجاز والمساواة؛ فلم تكن ففقرة (المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي) الواردة في النظام الأساسي للدولة مجرد "إكليشيه" منمق ونمط تعبيري عابر كما في دساتير بعض الدول، بل تنزلت واقعا في حياة كل من يعيش على أرض السلطنة؛ وما كان لذلك أن يكون لولا حكمة قابوس التي رأت أنّه لابد من إزالة ومعالجة كل أسباب الخلاف الداخلي من أجل فتح صفحة جديدة ناصعة، يكتب فيها العمانيون جميعا بلا تمييز قبلي أو طائفي فصلا جديدا من ملاحم تاريخ عمان الحديث، ويعمل الجميع "إخوانا متحابين" لأجل نهضة متوازنة تحافظ على النسيج الاجتماعي والفكري لكافة أطياف المجتمع. بل حتى المقيم الأجنبي كان له من عناية جلالته تلك نصيب، حيث كفلت المادة 35 من النظام الأساسي للمقيم الحق في العيش بأمان وطمأنينة وحماية شخصه وأملاكه.

شاد جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- دولة تقوم على نظام المؤسسات وسيادة القانون والشورى، وكما قال جلالة السلطان هيثم بن طارق -المُفدى- أنّ السلطان قابوس شيّد نهضة راسخة تجلّت معالمها في منظومة القوانين والتشريعات، وأقام بنية أساسية غدت محطة أنظار العالم وأسس منظومة اقتصادية واجتماعية قائمة على العدالة وتحقيق التنمية المستدامة وزيادة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل مما أدى إلى رفع مستوى معيشة المواطن العماني.. وما كان لعمان أن تحقق ذلك لولا القيادة الفذة للسلطان قابوس والذي تمكن من تحويل عمان إلى دولة وأمة حديثة منفتحة على العالم ومتواجدة في كافة المؤشرات الاقتصادية والأمنية الدولية بما يسر النفس والخاطر.

إنّ إصدار النظام الأساسي للدولة وتكوين مجلسي عمان يعدان أهم حدثين في تاريخ عمان الحديثة، وأبلغ شاهدين على أنّ عمان ترنو إلى مستقبل مشرق ترتكز فيه على القيادة الرشيدة، والاستقرار السياسي والاقتصادي، والسياسة الخارجية المتوازنة في زمنٍ يتطلب فيه بقاء الدول على قيد الاستقرار تفكيرا ونهجا مختلفا.

ففي وقت أقل ما يوصف به العالم بأنّه "سكة خطر" و"مجنون" كان السلطان قابوس بحصيلته من حكمة الربابنة وتراث الأسلاف والأجداد يبحر بسفينة عمان نحو شواطئ صافية تتضح فيها ملامح ومعالم الأشياء.. محاولا تجنيب بلاده الوقوع في منزلقات الاستقطاب وعقبات المحاور الحادة. فسعى بكل ما أوتي من بصر وبصيرة ثاقبة أن تنأى عمان بنفسها عن شرور الزمان وويلات الحرب والفوضى، لذا آلى على نفسه عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى ما لم يطلب منه ذلك في سبيل الخير وإشاعة السّلام والأمن بين الدول والشعوب؛ على أن يتم ذلك وفقا للمواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية وقواعد القانون الدولي. فما نطق جلالته -رحمه الله- في شأن خارجي إلا وكان من أجل السلام ورأب الصدع.

لقد خط السلطان قابوس لبلاده مسارا مختلفا. مزيج من الواقعية والوعي بضرورة أن يعيش الناس في سلام وأن تأتلف الإنسانية جميعها في حبل واحد حتى لا تضيع ريحها.

هذا المسار الذي يعبر عن معنى "التوازن في الحياة" جعل عمان "صديقة للجميع" و"قوة ناعمة" وقبلة تحج إليها أفئدة طالبي السلام العالمي والأمن الإقليمي.. والشواهد على ذلك كثيرة فعمان بما لها من مصداقيّة وقبول دولي طُلب منها التوسط مرارًا بين الفرقاء الليبيين واليمنيين وكذلك بين إيران والولايات المتحدة وغيرها من الأطراف الإقليمية المتصارعة.

نعم، رحل السلطان قابوس عن عمان بجسده؛ لكنّ ميراثه سيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ وستظل إنجازاته وحكمته خالدة عبر العصور فقد ترك -رحمه الله- أفكارًا ودروسًا قيّمة تستحق أن تكون نموذجًا وإجابات مثالية عن سؤال: "كيف تنهض الدول؟".