في ليلة أفل فيها القمر

ناصر بن سلطان العموري

تُعرِّف العرب غياب القمر على أنه أَفَلَ؛ أي: غاب واستتر وانقطع عن المشاهدة، وهذه هي حال قمر عُمان وشمس الزمان قابوس سلطان القلوب حين أَفَلَ ذلك القمر البديع ليلة الجمعة المباركة في العاشر من يناير 2020، والناس في سبات لم يصحوا منه إلا على خبر أُفُولُ نجم وبدر وقمر منير.. كان ينير عمان بعدله والعالم بحكمته.

بكتْ والدتي عند سماعها خبر وفاة السلطان -طيب الله ثراه- بكاء لم تبكه منذ ستة عشر عاما يوم وفاة أبي -رحمة الله عليه- بالله عليكم قولوا لي مَن سيقنع العجائز اللاتي عاصرنا حكم السلطان الراحل (قابوس) منذ فجر النهضه، أنه رحل ولن يعود؟ مَن سيقنع الشيبان أصحاب اللُّحى والعمائم البيضاء والخنجر العمانية الأصيلة أن قابوس رحل ولن يعود؟ فهم أكثر من عرفوه حق المعرفة، كيف وهم قد عاصروا معه منجزات النهضه وبناء الوطن لبنة لبنة؟! من سيُقنع الأطفال الذين يردِّدون يوميا كل صباح اسم قابوس في نشيدهم الوطني أن قابوس قد رحل ولن يعود؟ من سيُقنع الشباب والشابات أن مُلهِمهم وقدوتهم قابوس تاج الرؤوس قد رحل ولن يعود؟ بل من سيقنع العالم بأسره أن رمز الحكمة الحكيم قابوس قد رحل ولن يعود؟

الفاجعة ليست في موت إنسان بحد ذاته، ولكن الفاجعة هي موت إنسان كأمة، إنسان صاحب أثر يجري ولن ينضب، وأي أثر تركت بعدك يا قابوس... كان ذاك الخبر قد نزل كالصاعقة على رؤوس الأشهاد في ليلة ماطرة لعلها تغسل دموع العمانيين التى انهمرت في ليلة أَفَلَ فيها القمر قابوس، وانتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا، سنشتاق لتلك الابتسامة الآخاذة، وذلك الصوت الرصين، وتلك النظرة الحانية، وسوف يزداد شوقنا مع الأيام، ولكن مالنا سوى الصبر والدعاء لتلك الروح الطاهرة.

نحن بعدك يا قابوس ماضون متحدون لا شقاق بيننا ولا فتن، نسير على الطريق القويم والصراط المستقيم الذي نهجته لنا.... على هذه الأرض المباركة التي شهدت ولادتك ورحيلك الأبدي، وستظل صورتك البهية كما هي تتوسط السبلة ومجلس كل عماني، وستظل ذكراك ثابتة راسخة كالجبال في قلب كل عماني لن تزول، بل وسيظل كلامك نبراسًا يُستضاء به، ونهجا يُسار عليه أبد الدهر وإنجازاتك ومنجزاتك تشهد لك كصدقة جارية لك لشعب معطاء، منجزات يشهد عليها القاصي قبل الداني، منجزات لا تحويها كلمات هذا المقال، بل تحتاج لمجلدات وموسوعات.

دُرَر قابوس من حكم نفيسة وأقوال خالدة أثناء الجولات السامية واللقاءات مع أبناء المجتمع لا ينبغي أن يطويها النسيان، أو أن تكون مؤرشفة عبر الكتب أو الوثائق فقط، بل يحق لها أن تكون منهجا يُدرَّس للأجيال القادمة في المدارس والكليات والجامعات؛ فمثلها يجب أن يظل دستورا تسترشد به الأجيال جيلا بعد جيل.

هي أمانة ويا لها من أمانة وتركة ثقيلة لَتَنُوءُ بحملها الجبال، تركها السلطان الراحل لخليفته جلالة السلطان هيثم بن طارق أعانه الله عليها، وعلى أدائها على أكمل وجه، ولأنه من اختيار السلطان قابوس -رحمة الله عليه- فنحن على ثقة عمياء بأنَّ القادم يحمل بشرى خير وصبابة أمل جميل لعمان وشعبها، أمانة لم يتركها إلا لمن يستحقها، وهو بإذن الله لها، وسيقود سفينة عمان بكل حنكة واقتدار لأنه باختصار من اختيار السلطان.